لماذا الأسطورة في جدة تحديداً !!

  الأساطير تتحرك تحت جلد المجتمع كمصل له مفعوله السحري في دورة حياة الناس اليومية .. ولا يملك أحدٌ وقف استشرائه  وانتشاره ..

 فهي تسكن وجدان مجتمعاتها التي تنشئ في ظلالها .. وهي بالتالي لا تسقط بالتقادم ولا تتلاشى وتنتهي مع تعاقب الأجيال .

وتقتات بطبيعة تكوينها على استماتة الأفراد على اجترار سرد القصص والحكايا  لتفاصيلها الصغيرة .. فلكل مجتمع أساطيره التي تشكلت كما لكل مجتمع شكله وسمته وملامحه الخاصة التي تميزه عن المجتمعات الاخرى على هذه الارض .

كما أن لكل مجتمع عالمه الخيالي الذي يعبر عن  خفاياه وصلاته الغير محسوسة بماضيه القديم  ومآثره وأحقابه السالفة والجوانب المغيبة والغير مرئيّة .. ولكل مدينة تاريخية أصيلة  ذاكرة  تعمل في عتمة الظل  حيث تستتر بقصص أزمانه الغابرة والضاربة في القدم .

الأسطورة في الغالب هي الحادثة القديمة المحفوفة بالمبالغات  .. وهي كما عرفناها فإن وجودها ثابت عند جميع الأمم بلا استثناء فلا غرو أن توجد في المجتمعات العربية فقد ضرب العرب الأشخاص البارزين على سبيل المثال في أوصاف المروءة كحاتم الطائي في الجود والكرم والسموأل في الامانة والوفاء تأبط شراً والشنفري في الشجاعة وغير ذلك كثير ..

الأسطورة والفكر الاسطوري لم يعد عند الباحثين والدارسين كما كانت عليه سابقاً حيث كانت توسم بعبارات شنيعة تلصق بخطاب الغير على سبيل التسفيه وإنما غدت نمطاً من أنماط  التعبير والتفكير جديراً بكل عناية عند الباحثين والدارسين في هذا الحقل.

وفي ميدان الأسطورة التاريخية تضاربت الأقوال وتفرق الباحثون شيعاً وأشتاتاً حول تفسير مضامينها فتبدو أحياناً  كصندوق الحاوي أو فيما يخبئه الساحر في جرابه من عجائب وغرائب مثيرة ..

وتتسلل إلى أعماق المجتمع بسرود الحكايا والقصص المستملحة التي يصاحبها هدر متتالي غير متوقف من الأكاذيب والاختلافات ، وتتمدد وتتسع مع الفضاء الرحب لابتداعات رواتها ، يثريها الخيال فتتنامى وتتكور وتتشكل بإضافات مثيرة ..  وهذا ما يجعلها محوراً للحدث من تعاقب كل جيل ..

وتجدها أي الاسطورة في مدخل آخر وشكل مغاير  ومختلف لارتباطها برموز اعتلت فضاء المكان بنتاجها وحقيقة منجزاتها وقد تساهم في تعزيز القيم الاجتماعية والدينية وتنمية الروح الوطنية  لارتباطها بحقائق على أرض الواقع وإن صاحبها جنوح لخيالات بعضاً من رواتها عبر الازمنة والأجيال. 

وبذلك تشكل صندوقاً أسوداً لا يجرؤ أحدٌ على تشتيت حالة الالتفاف الوجداني نحوها لا سيما في مراحل زهوها وإطباق تأثيرها العميق ، فتدوير الحكي يوافق طبيعة وجودها دون المساس بما تحويه من مسلمات قد ترتبط بممارسات طقوس دينية كما كان يسر عليه اعتقاد المجتمعات ببركات ضريح أم البشر حواء وما يبسط ذلك من طقوس الزيارة وتقديم القربان والنذر.

وجاء في لسان العرب لابن منظور تعريف كلمة أسطورة أُحْدُوثَةٌ وأَحاديث ... والأَساطِيرُ الأَباطِيلُ والأَساطِيرُ أَحاديثُ لا نظام لها يقال سَطَّرَ فلانٌ علينا يُسَطْرُ إِذا جاء بأَحاديث تشبه الباطل يقال هو يُسَطِّرُ ما لا أَصل له أَي يؤلف ، و يقال سَطَّرَ فلانٌ على فلان إِذا زخرف له الأَقاويلَ ونـَمّقَها " .

وكما تناولت المعاجم العربية تعريفاً للخرافة بأنها أحاديث مختلقة مكذوبة  فقد جاء في لسان العرب  " والخُرافةُ الحديثُ الـمُسْتَمْلَحُ من الكذِبِ. وقالوا: حديث خُرافةَ، ذكر ابن الكلبي في قولهم حديثُ خُرافة أَنَّ خُرافةَ من بني عُذْرَةَ أَو من جُهَيْنةَ، اخْتَطَفَتْه الجِنُّ ثم رجع إلى قومه فكان يُحَدِّثُ بأَحاديثَ مـما رأى يَعْجَبُ منها الناسُ فكذَّبوه فجرى على أَلْسُنِ الناس"

واستخدمت كلمة الأساطير في القرآن الكريم لتعني الأحاديث المتعلقة بالقدماء " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ " أي مما سطروا من أعاجيب الأحاديث وكذبها.

ويصعب تحديد تعريفاً فاصلاً لها فإن نظرت إليها بعين التاريخي الثاقب لوسمتها بحالة من القداسة كونها تاريخياً حقيقياً للأحداث في العهود القديمة وله صداه المؤثر الذي لا يختلف أثره عن الأحداث التاريخية والحروب الملحمية وإن شابها لغط الأكاذيب المفتعلة.. وإن أحلتها لمبحث تحقيق اللغويين فستجد المعاجم وقواميس اللغة تنعتها بالحديث المكذوب أو ما يخالطه أكاذيب وإن وجهتها لساحة الدارسين والباحثين في مجالات علوم الاجتماع فستتخذ منها منطلقاً لدراسة المجتمعات بوصفها حجر الزاوية ومفتاح قراءة كل مجتمع ..

 وإن أفردت لها طاولة نقاش علماء النفس ورواد التحليل فستتخذ شكلاً وقالباً آخر له عالمه الخاص حيث يسود التشبيه لطبيعتها بأحلام الشعوب المقاربة في الحكم والوصف لأحلام الأفراد لخروجها من قيود الزمان والمكان .

وعندما أُعير اهتمامي لصناعة وإنتاج مؤلف يعتني بالأسطورة في هذه المدينة القديمة فإن جهوداً مبذولة  في مؤلف كهذا  مهما بذل من أجله وسخر في سبيل إتمامه بتوفيق من الله قبل وبعد كل شيء ، فإنه يمثل أيضاً باكورة الأعمال في هذا الجانب الذي قد تغافل عنه جميع من كتبوا واعتنوا برصد وتوثيق الحياة والتاريخ الإنساني والاجتماعي للمدينة وهو يعطي في يقيني إشارة البدء والانطلاق لأعمال نقدية وبحثية وتاريخية تعير هذا الشأن حقه من الدرس والبحث والعناية .

ويكفى للاستدلال بضرب مثلاٌ واحداً عند مناقشة موضوع كهذا  بتقديم الحديث عن  قبر أم البشر حواء ، فسيأخذ النقاش مجرىً مختلفاً لكونها أسطورة أخذت طابعاً أممياً و دارت حولها أحداث شارك في تعظيم أسطورتها أفواجاً هائلة من جميع أصقاع الأرض عبر الزمن القديم ..

ففي كل عام حيث الحجاج من كل حدب وصوب يفدون للبقاع ويقدمون قرابين الولاء والاسترضاء لضريح أم البشر حواء حتى ساد الظن إلى أن صحة أداء الحج وسلامة مناسكه وثبوت أركانه لا تتحقق إلا بإرضاء أم البشر التي لها حقوق البر تعم كل البشر ، وتقتضي الوجوب لكل زائر وعابر وحاج يقصد البقاع المقدسة طلباً لنيل المثوبة من الله تعالى وليتحقق وعد الله تعالى بأن يعود كيوم ولدته أمه طاهراً نقياً نظيفاً.

كما أن أمثلة الخرافة عديدة في هذه المدينة من حيث  كونها حديثاً مكذوباً لا صحة له ولا أصل في أي وجه من أوجه انتشاره وتطور تناقله بين الأجيال فتحتل " الدجيرة " مكانها البارز هنا وهي جنية خبيثة بحسب تعريف معاصرو خرافتها المستشرية وقد تتسبب هذه الأكذوبة في حدوث عجز حقيقي لأحد طرقات المدينة باحتلالها سكنى بيت مهجور وهو زقاق يسمى " الخنجي "

فلا أحداً يقوى على السير فيه ليلاً فخرافة الدجيرة تسببت في حدوث شلل شبه تام خيم على عقول البشر الراضخين المسلّمين بمكوثها هناك واحتلالها للبيت المهجور حيث لا مجالا للعيش والتعايش في هذه المدينة بغير التسليم بحتمية وجودها ولا يجرؤ كائناً من كان على التشكيك فيها ..

ومن أمثلة هذه الخرافات ما يسمى بـ "النمنم " آكل لحوم البشر وهي خرافة موسمية لها شأنها الخاص حيث تتفشى حالة الاستنفار من مخاطره الجسيمة مع قرب مواسم الحج ومع توافد الأفواج المباركة عبر البحر من أفريقيا على وجه التحديد حيث يندس بينهم نمانم  بشرية تتغذى على صغار المدينة وشبابها ويتجاوب الجميع مع خرافتها الجاثمة على عقولهم بمنع  الصغار من لهوهم البريء في الحارات والطرقات والساحات في أجواء استنفارية مرعبة..

فإذا كانت جدة في تاريخها القديم قد احتوت جميع المسلمين من سكان الأرض وعلى مدى أحقاب تاريخية قديمة للالتفاف حول أعظم أسطورة سادت في حينها ردحاً مديداً باحتضانها  رفاة أم البشر وما غالب ذلك من ظنون وطقوس ومعتقدات فإنني قد تعجبت من خلوها ذكر هذه المدينة من سياق الحدث التاريخي الأسطوري في مؤلفات  وأبحاث متخصصة تعنى بالأسطورة كمحور دراسة وبحث ..

وقد زال تعجبي حينما اطلعت على نصاً أسطورياً قديماً في منتهى الغرابة لمن يحاول الاقتراب لمعرفة تاريخها القديم الذي يتحول في إحدى جوانبه إلى رموزٍ تستحق التوقف بمجهر المؤرخ الباحث في باطن أرضها وما قد تأويه من خفايا وأسرار،  وهذا ما سأتناوله في موضوع منفرد عن رواية زجت باسم المدينة بنشأة عبادة العرب للأصنام في الجاهلية ، بل ودخلت لاعباً رئيسياً في صناعة الحدث.. فقد اقترن اسم جدة بعمر بن لحي وهو ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب وأخبر بمدفنها بأرض جدة وذلك بعد الطوفان الذي حلّ في زمن سيدنا نوح عليه السلام حيث وارى الطوفان العظيم تلك الأصنام ردحاً من الزمن ، واستقرّت على شاطئ جدة مطمورة تحت أرضها تنتظر من يفرج عنها لغواية البشر بعبادتها من دون الله تعالى ..

وغير ذلك من الطرح الذي يتناول موضوعات الأسطورة والخرافة التي نشأت وعاشت في جدة وبين حاراتها القديمة وتوارث الناس فكرها ووهم انتشارها وتسلطها على عقولهم ، شأنها شأن جميع ملامح الثقافة المجتمعية و الإنسانية في مدينة شهدت انفتاحاً على العالم الآخر في أحقاب وأزمنة لم تكن لغيرها من المدن فرصة احتواء عناصر مختلفة من ثقافات متنوعة وانصهارها في طين هذه المدينة .. فكان الناس في حاراتها من كل جنس كما المائدة الحجازية فيها من كل الأنواع والأصناف والمذاقات واكتسبت بهذا التنوع الفريد الغير مصطنع والغير متكلف فرادة  خاصة منحتها كل هذه الخصوصية.  

 

                                                 (من كتاب الأسطورة في مدينة جدة)