عيادات جدة القديمة

  تسعة محلات قديمة للعطارة تتوزع في كافة حارات جدة القديمة , يقف عليها أطباء البلدة " العطارة " ليعالجوا بمئات الوصفات الشعبية التي تمتد من الرأس إلى القدم .. وهذه المحلات تمثل العيادات المتخصصة في زمن الإمكانيات البسيطة والحياة الشعبية التي لم يكن للناس فيها سوى الاتجاه إلى الشيخ العطار عند الشكوى من أي ألم أو وجع عارض ليضع العطار وصفته الشعبية لها ويخضع مريضه للحمية اللازمة , ويردد نصائحه وإرشاداته التي كانت محل الاهتمام والتقدير والاستماع في تلك الأركان التاريخية التي عاش خلالها العطار عقوداً طويلة مليئة بالنجاح وهو في قمة عطائه وتواجده .

      وكان عطار جدة القديمة الذي يقف خلف عيادته الشعبية يحمل وصفات طبية لا يختلف عليها اثنان من خبراء العطارة وهم أطباء لم تخرجهم أكبر جامعات العالم في ذلك الحين ولا ينقصهم سوى إجراء العمليات الجراحية في زمن سبق عصر الطب الحديث وطب الأدوية والعقاقير .. حيث كانت الأعشاب تجتمع تحت يد الشيخ ليفصلها ويصنفها لتناسب كل حالة مرضية بطريقته الشعبية المتعارف عليها في عيادات العطارين .

  وأولى العيادات الشعبية للعطارة وأكثرها شهرة وانتشاراً عيادة الشلبي لصاحبها الشيخ أحمد قمصاني الذي كان يتوسط في سوق العلوي كوكبة من العطارين الخبراء المشهود لهم بالمعرفة بفنون العطارة وأصولها , ولم يتخلد محل الشلبي للعطارة بجدة القديمة إلا بعد سنوات طويلة من العطاء بدأه الشيخ محمد الطائفي وهو العطار الشهير الذي أورث شهرته للشيخ حامد الشلبي حتى عرف الناس ذلك المحل باسم الشلبي .. وعلم الشلبي بعد ذلك فنون العطارة لابن أخته أحمد قمصاني حتى اشترى محل خاله عام 1354هـ ليبقى اسم الشلبي على المحل ويعيد لأذهان الناس سمعة وتاريخ الشلبي كوفاء منه لمعلمه القدير وظل الناس حتى يومنا هذا يلقبون أبناء أحمد قمصاني الذين استمروا في مجال العطارة بهذا اللقب القديم .. وكان محل القمصاني يضم ثلاثة مساعدين الأول عبد العزيز هاشم والثاني أحمد العروضي والثالث أنعم غيلان .

 والمحل الثاني للعطارة هو محل العطار سعيد باديب بجانب مسجد عكاشة ويأتي في الدرجة الثانية من حيث الشهرة والانتشار بعد الشلبي العطار , وكانت العيادة الثالثة للعطار حامد أبوالحمايل بسوق الندى والرابعة للعطار محمد فتح الله بباب شريف .. وكذلك محل العطار محي الدين مليباري بحارة النورية " سابقاً " وهو أحد أقدم العطارة فقد بدأ العطارة عام 1290هـ وكان محله هذا بمثابة مخزن متكامل لتجارة العطارة بالجملة ويعاونه في هذه المهمة ابنه العطار محمد علي مليباري وبعد وفاة والده عام 1365هـ تعرض محل العطارة ضمن مشروع هدد حارة النورية للهدد بالكامل مما دفع الابن محمد علي إلى فتح محل جديد ببرحة نصيف بسوق العلوي عام 1385هـ , وكان أيضاً أبناء التاجر عبد القادر نور ولي وهم عبد الغني ومحمد نور ولي قد دخلا تجارة الأعشاب واستيرادها من الخارج في محل ثابت بجانب مسجد المعمار بسوق العلوي وكانت محلات المليباري ونور ولي تشكل روافد هامة تدعم محلات العطارة بأهم الأعشاب وتعينهم على تدبير وتوفير أندرها .. أما المحل السادس للعطار سعيد باقبص بسوق العلوي وبجانبه محل العطار عبد الله سالم باقبص , وأخيراً محل العطار حسن لمبة بسوق الندى , وكذلك محل العطار محمد داود الهندي والعطار حسام الدين بجانب مسجد عكاشة .

 وقد صادفت الظروف ظهور عطار في باب شريف يحمل نفس اسم العطار حامد شلبي إلا أن المحل لم يستمر طويلاً بعد وفاته .. وكان الناس يتعاملون معه وهم على علم بسر تشابه التسمية لمعرفة الناس ببعضهم البعض في مجتمع جدة الصغير .

 ويذكر المرحوم عمر محمود باعيسى عمد محلة الشام والمظلوم سابقاً " كان الطب الشعبي والعطارة في جدة القديمة بوجود هذه النخبة من أسماء العطارين تمثل ثقلاً على مستوى المنطقة , فالعطارة أمثال الشلبي وباديب يستقبلون حالات من خارج مدينة جدة بحكم شهرتهم الواسعة وخبرتهم في هذا المجال , وإن المنافسة كانت عالية بين العطارة إلا أن الشلبي وباديب كانا من أشهر العطارين وأكثرهم انتشاراً " .

 وبذلك شهدت هذه العيادات التاريخية الطبية بوجود هذه النخبة المميزة من العطارين نقلة ضاربة لوضع العطارة في جدة القديمة في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي , وساهمت هذه النقلة في وجود منافسة جديدة فيما بين العطارة أدت إلى تسابقهم وسعيهم المستمر للتعرف على الجديد في مجال الطب الشعبي والوصفات المختلفة وتراكيبها وحصولهم على المراجع الهامة في هذا المجال للاستعانة بها عند مواجهة حالات مرضية جديدة عليهم قد تعترض أحد السكان خشية انتشارها وتفشيها بين أبناء جدة القديمة وكذلك سفر بعضهم إلى دول كانت معروفة بالعطارة كسوريا ومصر والهند لجلب أندر الأعشاب التي قد لا تتوفر لعلاج أمراض خطيرة أو مزمنة كمحاولة للقضاء عليها عند ظهور أعراضها المبكرة والاستفادة من تجارب العطارة المعروفين في تلك الدول الشهيرة في مجال العطارة والاجتهاد بالسؤال عن وصفات شعبية تعالج أمراضاً أصابت أحد أبناء جدة القديمة وتعثر عليهم علاجها .

 وكان هناك اثنان من وكلاء العطارة بجدة القديمة , يجلبون أنواع الأعشاب والوصفات الشعبية من مدينة بومباي الهندية وهما محمد عمر جمبهاي وغلام رسول , حيث كانت بومبي هي أكبر سوق للعطارة يستمد عطارة جدة القديمة أعشابهم ووصفاتهم منها .

  تبدأ عيادات جدة الشعبية العمل بعد صلاة الفجر مباشرة ليستمر العمل بها  والطلب الملح عليها حتى صلاة العشاء , بمعدل خمس عشرة ساعة يومياً , ويكون بعدها العطار ومساعدوه قد أنهكوا من شدة الإقبال والطلب , فلا يكاد العطار يفرغ لنفسه في ركنه التاريخي من الطلب المتزايد على الوصفات التي يعكف لتجميعها ويكرس كل وقته لتنسيق معادلاتها واحتمالاتها لكل حالة منفصلة على حدة من المرضى الذين لا يجدون سواه من طبيب يرعى أمورهم الصحية سواء من أبناء جدة القديمة أو من الطارقين لشهرته وانتشاره من خارج سورها العتيق .. وقد يتطلب الأمر من العطار الانتقال إلى موقع المريض في منزله إذا تطلب الأمر ذلك واستدعت الحالة ضرورة الانتقال ليترك مساعداً ينوب عنه في استقبال الطلبات العارضة والمتكررة , ويؤجل المساعد الحالات التي تحتاج إلى معرفة وخبرة معلمه ليبت بشأنها لحين عودته من المهمة الاضطرارية .

 العطار أحمد العروضي والعطار عبد الله سالم باقبص  والعطار عبد الله سعيد باقبص يحكون شيئاً عن محلات العطارة  " المحلات كانت أشبه بالمناحل من شدة الإقبال والطلب .. وكان الناس يلتفون حول طبيبهم العطار بمشاعر التقدير والاحترام ويستمعون إلى وصفاته وينفذونها بالحرف الواحد .. ومن منطلق هذه المهنة الإنسانية كان العطار يبذل قصارى جهوده ويمنح كامل وقته لمرضاه , وهذه المهنة الإنسانية تدر بطبيعة الإقبال المستمر عليها أرباحا مجزية تكون حافزاً له للاستمرار بنفس الحماس والجهد اليومي " .

 لا أحد من سكان جدة القديمة لا يعرف الشيخ العطار , والجميع يثق بطرقه العلاجية .. فساعات المرض المحرجة ستوقف كل ساكن على عتبة العطار وترغمه لطلب بركة وصفاته ويرخي رأسه من شدة الألم وصعوبة الموقف طالباً العلاج وهو يبوح له بألمه وشكواه ليمنحه العلاج ويُسمعه سبل الحمية ويخضعه للوقاية اللازمة .

 وكان العطار يعي أبعاد مسؤوليته الإنسانية في ذلك المجتمع البسيط ويضع أهل حارته نصب اهتمامه بعيداً عن الأرباح التي بمقدوره تحقيقها من ممارسة العطارة والطب الشعبي بقليل من الاستغلال ويجعل من نفسه أحد أثرى أثرياء وأغنى أغنياء المدينة التاريخية قياساً بالأنشطة التجارية الأخرى كما يصف لنا العطارة ممن عايشوا زمنها القديم , ونتيجة للطلب المستمر والملح لشخصه الذي يثق به الناس البسطاء ورغم ذلك الوضع المغري تجارياً وربحياً إلا أن وصفة العطار الطبية لا يتجاوز سعرها مهما بلغت تكلفتها وندرتها وجهد العطار في جمعها الريال الواحد مما يزيد الولاء ويعزز الثقة في شخصه . كل عطار يحرص على اختيار مساعد له أو أكثر من مساعد , يكون موضع الثقة والائتمان والخلق بعد التأكد من رغبته في تأدية هذا الدور الإنساني وعشقه هموم هذه المهنة ومتاعبها التي لا تقاس بأرباحها مهما كانت مغرية وتجارتها رائجة وسريعة الأرباح حتى يؤدي الدور الإنساني الذي ينتظر القائم على هذه المهنة ويقف بجانب معلمه الذي يثق الناس بأمانته وإنسانيته ويسقيه العطار خلاصة تجاربه ليعينه على مواجهة الإقبال المتزايد ويكون خليفته في العطارة وسنده الأيمن في تغطية مهامها .. فكل شخص يتمنى بأن يقبل العطار ابناً له يعلمه العطارة ويلقنه مبادئها الإنسانية الراقية ويدرسه أصول وصفاتها وتركيباتها الطبية ويكون في مستقبله خلفاً للعطار الشهير وينال قليلاً من خبرات الشيخ العطار الذي يلتف حوله الناس في أصعب الأوقات وأشدها حرجاً .

 ويأتي الحرص على الاختيار من منطلق عدم النظر إلى الجوانب الربحية  والمادية كأساس لقيام محل العطارة واستغلال حاجة الناس لها وهو الهدف الذي لا يتفق مع مبادئ الشيخ العطار الأب والشيخ وصاحب البركة والكرامة .. فيعلم مساعده إنسانية العمل قبل ممارسته كتجارة رائجة وليرضَ بظروف مريضه المادية مهما كانت بسيطة وليغض نظره عن بعض الحالات التي يتجلى خلالها بإنسانيته ونبل أخلاقه الرفيعة التي تخوله لتلك المكانة التي يراها فيه أبناء بلدته الصغيرة . فلو فكر العطار في أن يزحزح أطراف تلك المعادلة بين الجانب الإنساني والجانب الربحي فسيتحول العطار الشيخ صاحب البركة إلى تاجر تتسع تجارته مع كل يوم جديد يلاقي فيه الطلب المتزايد على وصفاته وبركاته , وكما يقول العم صالح علي خضري عن هذا الجانب " كان هناك تقليد يتبعه البعض من السكان بعد أن يتلقى العلاج من العطار ويشعر باسترجاع عافيته بإذن الله بأن يزور العطار ويشكر له ذلك الفضل بعد الله تعالى وربما إذا كان المرض قد سبب هواجس سيئة في تفكير المريض يحاول تقبيل يديه بعد الشفاء كتعبير منه عن الولاء والفضل لخدمته العلاجية التي لم يتجاوز سعرها القروش المعدودة وأنقذت حياته من الخطر واستبدلت تشاؤمه بتفاؤل ونظرة جديدة طموحة للحياة .. فالحاجة إلى العلاج وقت ذروة الألم والخوف من أعراض وآلام المرض لا تقدر بثمن ومال مهما بلغ , وهذا ما يشعر به العطار بالسعادة ويرفع من معنوياته وهو يمارس عمله ".  

  ويأتي دور مساعد العطار في تغطية مكان معلمه أثناء انشغاله لأي ظرف من الظروف التي تستوجب مغادرة المحل لساعات أو لأشهر في حالة ارتحال الشيخ العطار طالباً الاستزادة من الوصفات والأعشاب في أي موقع يشتهر بالعطارة .

  وينتظر السكان نتائج رحلة شيخهم والتي قد تسفر عن وصفات وأعشاب جديدة وحديثة تدفع البلاء عن سكان جدة القديمة وغالباً ما يعِد العطار قبل رحلته بعض مرضاه ممن يعانون من أمراض مزمنة بأن يسأل لهم عن وصفات تزيد من حصيلته وربما تجلب الشفاء لهم .. فكل ساكن له عطاره المفضل الذي يقتنع ببراعته ومهاراته من بين العطارة التسعة الذين يتعاونون في حلهم وترحالهم في تبادل الوصفات التي يحتاجها أي منهم فيقدمها لمريضه الذي يعلق آماله على رعايته لحالته ومحاولاته واجتهاداته الشخصية .

وكانت مدينة جدة عموماً في ذلك الزمن مساحتها الإجمالية لا تتجاوز كيلو متر مربعاً , ومحاطة بسور تم بناؤه عام 915هـ حماية للمدينة من هجمات أعدائها في عهد قانصوه الغوري أحد حكام دولة المماليك ،  والسور لـه أربعة  منافذ ( باب جديد  شمالا وباب البنط غربا وباب شريف جنوبا وباب مكة شرقا ) وهذه الأبواب تقفل بعد صلاة المغرب ولا يسمح لأحد للدخول أو الخروج منها , وظلت جدة محدودة المساحة والحركة حتى عام 1367هـ عندما تم هدم السور لتتسع في كافة الاتجاهات .

  وكانت جدة بطبيعة موقعها تستقبل الوافدين إلى الأراضي المقدسة من حجاج أو معتمرين لذلك تجد سكانها باقة زهور من الأجناس والبلدان المختلفة فهي بذلك جمعت ثقافات مختلفة وحضارات مختلفة على طوال عمرها الذي يرجع شاهد من شواهده إلى عام 25هـ عندما اختارها الخليفة الثالث عثمان ابن عفان رضي الله عنه لتكون ميناء لمكة المكرمة .  فكان سكان جدة يطالعون حضارات الأمم الأخرى من منافذها المفتوحة بحكم أهمية موقعها , وسايرت هذه المدينة التاريخية الصغيرة ركاب الحضارات الإسلامية على مر العصور ابتداءً بالعهد الأموي ومروراً بالعهد العباسي والمماليك والهاشميين وانتهاءً بالعهد السعودي الميمون .

  وتتسم هذه المدينة بالأزقة الضيقة والممرات التي تفصل بين مبانيها المتقاربة والمبنية بواسطة الأحجار المنقبية والخلطة البحرية ويميزها الرواشين الخشبية والمشربيات , وبلغ عدد سكانها حتى قبل تاريخ هدم سورها ستون ألف نسمة  . 

وكانت المدينة التي تلامس شاطئ البحر الأحمر تعاني من شح المياه وندرتها وهي أزمة حدت كثيراً من حركتها ونموها حتى تأسست العين العزيزية في نفس العام 1367هـ  حيث كان السقا هو رجل الأزمة الذي يجلب المياه للسكان من الكنداسة  ,  أو من مياه الصهاريج أو مياه الآبار خارج المدينة .. وجمعت هذه الأزمة أغنياء جدة وفقراءها في هم واحد وهاجس واحد وهو البحث عن قطرات المياه والعمل على توفير المياه والمحافظة على قطراتها في أشد الأوقات حاجة وسؤالاً لمادة الحياة الأساسية .

  فالفقير يعمل ويكد يومه ليحصل على زفة  المياه والغني يكتنز قطرات المياه لأوقات ندرتها وشحها , ويتكافل ويتساعد أفراد المجتمع لمقاومة هذه الأزمة بروح المجتمع الواحد , فالذي يبخل عن المساعدة اليوم ستجبره الظروف غداً لطلب قطراتها .