المقدمة

   كلما توسعتُ في البحث والقراءة والاطلاع على تاريخ وتراث جدة القديمة , وجدتُ طبيبها العطار وأحد فرسانها ونجومها يختبئ بعيداً عن أي مساحة تسلط عليه الضوء , أو تحاول معرفة شيء عن تراثه أو تسجيل شيء عن حياته وتاريخه وتاريخ العطارة والطب الشعبي في هذه المنطقة التاريخية .. والتي كما يبدو من القليل من الحكايات التي تحمل ذكريات العطارة , وتردد شيئاً من مواقفها بأنها ذات تاريخ عريق وتراث جميل يصعب تجاهله لمجرد اختباء فارسه لأي ظرف من الظروف .

 لكن السبب وراء اختفاء الشيخ العطار بخصوصيته التي ترتبط بالمكان والظروف , يعود إلى السقوط التدريجي غير المتوقع من حسابات المجتمع القديم وهو في عز أوجه ونشاطه وحركته , بعد الصراع الطويل بدءاً بهدم سور جدة العتيق عام 1367هـ الذي كان يؤطر حدود جدة ويحدد اتجاهاتها وحاراتها .. فخرجت المدينة تجري وتزحف وتتوسع في كل الاتجاهات , تاركة حدودها التاريخية وقلبها النابض , في الوقت الذي يرعى فيه العطار نبضاتها بوصفاته الشعبية التي تمتد من الرأس إلى القدم .

 وفي نفس ذلك العام الذي فقدت فيه المدينة نكهتها وطابعها القديم , شهدت جدة إقامة أول مستشفى خاص أعطى الإشارة لسباق جديد يقوده الأطباء , وشهدت المدينة الصغيرة زحف الأطباء ليشددوا الحصار على العطارة وينافسوهم على المريض الواحد .. وأصبحت وصفات العطار " دقة " قديمة في نظر أبناء الجيل الجديد . ولا يبحث عنه إلا القلائل ممن عاشوا حياتهم داخل السور القديم مع شخصيته المباركة ووصفاته الأسطورية التي لا يجوز التشكيك في فعاليتها وقدرتها بين أبناء المدينة الصغيرة التي كبرت مع عمليات الهدم والزحف السريع على هويتها وملامحها التراثية والشعبية , حينها فضل العطارة بأن يكونوا أول الرجال المحترمين الذين رحلوا بتراثهم العريق عن المنافسة المحرجة .

 ولا بد من الإشارة إلى أن مسيرة العلاج الطبي بالطب الشعبي قد صاحبها شيوع بعض الأفكار والمعتقدات الخاطئة وترويج بعض الخرافات والمشعوذات التي تخالف عقيدتنا ولا تتفق مع منهجنا وشريعتنا السمحة , إلا أن تسجيلها بنفس صورتها السابقة كان أمراً حتمياً تقتضيه أمانة التسجيل والتدوين والرصد .

ولعل هذه هي المحاولة الأولى من نوعها التي تلقي الضوء على عطار جدة القديمة , في ظل عدم وجود أي مراجع أو كتب تناولت العطار بشيء من الدراسة أو الكتابة أو الذكر الهامشي مما يغفر الكثير من أخطاء أو زلات المحاولة الأولى التي ارتكزت على الاجتهاد والالتقاء بكبار السن والمعمرين ومراقبة آخر العطارين ممن شهدوا وضع العطارة قبل الهدم وبعده , حتى أصبح أطباء البلدة بالأمس هم اليوم مجرد بائعي أعشاب وبهارات طعام تثير الحساسية لدى أصحاب الأنوف الحساسة .