شعرة الجنون التي تجمع العباقرة بالمجانين قد أشغلت الناس بما وراءها وما يدور في أطوراها من تكهنات وأسرار كما في المقولة المشهورة ( بين العبقرية والجنون شعرة ).. وتبدو كأنها نظرية شعبية صدرت من أفواه الناس كالأمثال والحِكم التي تعبر عن تجارب الشعوب وخبراتها المتراكمة عبر السنين الطويلة وشكلت إرثاً تاريخياً ينتقل عبر الأجيال في مضامين ثقافتهم الشعبية المتوارثة ..
وربما غابت الحكمة هنا في القول الدارج وحلّ محله الفضول لمعرفة ما خرجت به المقولة من أسرار وخفايا لسلوكيات المشاهير من العباقرة والمبدعين ، فالناس بطبيعتهم يستملحون الحديث عن الحكايات الغريبة والملفتة ويتناقلونها فيما بينهم ، وبالذات إذا ارتبط الموقف بمشاهير العباقرة والمبدعين وجنون تصرفاتهم وسلوكياتهم التي تضعهم في خانة المجانين.
هذه الشعرة التي تجمع بين المجانين والعباقرة وهم أصح البشر عقلاً لما حباهم الله من ذكاء خارق تعيش بين الناس وتظهر بوادرها عند ملاحظة أي حالات قد تخرج عن طور الطبيعة المعتادة للمبدعين والموهوبين والعباقرة كبشر أسوياء ، وقد تكون سِير وتراجم بعض العباقرة والمبدعين الملهمين والفناين المحلقين سبباً في هذا التعميم الذي خرج بطيف الجنون لغرائب تصرفاتهم وسلوكياتهم الشخصية والأمثلة في ذلك كثيرة وعديدة..
ومن زاوية هذا الحكم قد تكون هذه المقولة راجحة عند العامة ، وقد وجدت قبولاً في أوساط المتعلمين والمنشغلين بالمعرفة ويبدو ذلك بوضوح في ترديد محتواها إذا تطابقت جزئياً أو صورياً مع الواقع المعاش وقد تحدث في ذلك الكثير من الأدباء في كتاباتهم عن سلوكيات المبدعين وغرائب تصرفاتهم كما تجري المقولة على أفواه الناس ، فالحكم ينطلق من وجود قواسم وملامح سلوكية مشتركة بين الطرفين المجانين من جهة والعباقرة من جهة أخرى .. ويحدث ذلك إذا لمحوا سلوكاً تصرفاً ما يخرج عن دائرة المعقول اجتماعياً فيظهر عندهم برهان المقولة الشائعة التي تخصّ هذه الشعرة التي تساوي العاقل العبقري بالمجنون المختل عقله.
ومن منطلق ومنطق هذه المقولة يبرر البعض من الناس شذوذ تصرفات ذويهم المستغربة ممن يظنون بذكائهم بإلصاق هذه الحالة الخاصة بالنوابغ والعباقرة من البشر ، حيث لهم خصوصية الحكم دون غيرهم ، فيقبلون ويمررون ما يصدر منهم وعنهم من تصرفات وسلوكيات على أنها حالة خاصة كالمتلازمة التي تخص هذه الفئة النادرة من البشر ، وإن صدرت تلك السلوكيات عن غيرهم لوصفوه فوراً بالجنون والاختلال ..
ففي الثقافة الشعبية يعيش المبدعون والعباقرة حياتهم في انكسارات وخيبات وهزائم وبالذات في المجتمعات التي لا تراعي حالاتهم النادرة ، فالعبقري إن لم تمكنه الظروف من إطلاق إبداعاته وأفكاره العبقرية يظلّ عرضةً للإحباطات والخيبات وبهذا ينتهي عليه الحال ، فقد كتب عليه القدر في مجتمعات العالم الثالث على سبيل التفصيل في استعراض وتخصيص التبريرات والحجج لأن يكون في حال مقارب بين الجنون في تصرفاته وقبولها وفهمها إن صدرت عنه أو منه ، وكأن الناس بهذه المقولة يصنفون طيفاً من الجنون يخص العباقرة وهو تصنيف شعبي من وحي المقولات الدارجة.
فليست هناك شعرة ولا يحزنون ولكن هناك خلطاً في فهم الناس لواقع هذه المقولة ، فكثير من الناس قد يتعرضون للضغوط النفسية والانفعالية وليس بالضرورة تبرير سلوكياتهم على أنهم من شديدي الذكاء أو من العباقرة حتى تأخذ هذه الشعرة مكانها كما في المقولة الشهيرة كما أن بعض المشاهير قد يتغير مسار انتاجهم الفني والإبداعي لو أصابهم داء الغرور وأمراض النجومية والشهرة الطاغية فينسحبوا عن مضمار الإبداع بتعرضهم لحالات نفسية كالإصابة بجنون العظمة الخطير ..
من هنا قد نصل إلى المساحة المشتركة أو الأرضية في مقولات الناس والتي تسمح بالتقاء الطرفين ولنقل بأنها الشعرة التي جمعت بين الطرفين فإذا ظهرت بوادر اختلال سلوكي يذهب البعض بالاستعانة بحالة الشعرة التي تمرر الموقف وتبرر حالة الشخص بأنه مصاب بطيف جنون العباقرة الذي يقتصر على العباقرة دون غيرهم ، والأمر هنا يخص من يدرك الناس أو بحسب ظنهم أنه صاحب قدرات وطاقات ذهنية وابداعية ، فهي شعرة العبقرية بين الإنسان الطبيعي العاقل وبين من أصابه مس الجنون.
علماء النفس وخبراء التربية لا يعترفون بهذه المقولة شكلاً ولا مضموناً .. فلديهم من مقاييس الحكم على قدرات البشر العقلية ما يكفي لإبطالهم هذه المقولة فالجمع بين العباقرة والمجانين لا يمكن لأن كلٌ منهما يقف على طرفي نقيض في مقاييس الذكاء المتخصصة ، لذلك هي مقولة شائعة تقدم مقارنة غير عادلة للمجانين قبل العباقرة والأذكياء.. ولم تغنِ محاولات علماء النفس والتربويين لاقتلاع شعرة الجنون لكونها تفتح الطريق لتبنّي مفهوماً كارثياً في حكمه وفيما يلحق به من نتائج وتبعات.. ويعتبرونها ضرباً من الجدل الاجتماعي الفضفاض الذي لا يخضع لمجهر علمي ولا لطرح مهني وموضوعي .. وإنما هي في تحليلهم مقولة دارجة ليس أكثر .. من هنا كان حكم التربويين بأن هذه المقولة هي ضرباً من التعميم الخاطئ المرفوض في تقييم الأمور وتفسير الظواهر وتبرير السلوكيات المستغربة..
فالجنون عندهم شيء آخر تماماً غير تقليعات المزاج المتقلب وانفعالات أصحاب الاضطرابات النفسية ، فكله قابل للعلاج التدريجي سلوكياً ونفسياً وقابل للخضوع عبر برامج تأهيلية وعلاجية تقام عليها الأبحاث في تخصصات لها أهميتها وعمقها المهني .. أما الجنون فصاحبه محكوم عليه بتدني وقصور في قدراته العقلية وعدم قدرته على التكيف مع بيئته ومجتمعه وعليه يستوجب الحال وضعه مع أشباهه في الظرف والحالة وهم فئات الاعاقة العقلية التي تتدرج بحسب شدة ونوع ودرجة الحالة بين بسيط ومتوسط وشديدي الإعاقة العقلية.
وبموجب ما سبق من تعريف دقيق لا مجال فيه للعبث والعشوائية فإن حكم هذه المقولة جائراً لتناقضه مع النتائج الدقيقة للمقاييس التشخيصية للحكم على قدرات الأفراد العقلية فالشخص المجنون يصنف بحسب المقياس ضمن فئات التخلف أو العوق العقلي وفي ذلك حكمً قطعياً على مستقبل ومصير الفرد ومثل هؤلاء المختلين عقلياً لا ترمي جهود تدريبهم وتنمية مهاراتهم لأن يكونوا أطباء ومهندسين وإعلاميين ورجال أعمال وأساتذة جامعات وإنما بهدف أرقى بكثير من كل ذلك لمن يستشعر جوانبها الإنسانية النبيلة في أن يعيشوا حياتهم بكرامة إنسانية وأن يشعروا بالسعادة من خلال استدراك المجتمع بهمومهم وقضاياهم .
بقي القول بأن المبدعين وشديدي الذكاء وما يطلق عليهم العباقرة هم أيضا من الفئات الخاصة باعتبارهم من ذوي القدرات الخاصة ومن يحتاجون إلى رعاية تعليمية وتربوية واجتماعية خاصة لاحتضان مواهبهم وطاقاتهم الذهنية التي من الممكن أن تتفجر عنها إنجازات إبداعية وابتكاريه ينهض بها المجتمع فهم رصيد من الثروة التي يجب رعايتها واستثمارها .
عبدالعزيز عمر أبوزيد