لا جدال في أن مهرجانات جده التاريخية التي ظهرت بثوبها الكرنفالي والإعلامي والتنظيمي كانت حلماً نسعى إليه ويراود طيف أمنياتنا تجاه هذه المنطقة العزيزة علينا حقيقةً وليس على سبيل الاستهلاك في الوصف ..
ولو تحدثنا عن سنوات سابقة قبل حلول وتنفيذ هذه المهرجانات بمشهدها وحضورها القشيب لربما كانت الآلام لا تقل عن ما كان يعصف بالمنطقة من هجر جماعي لسكانها بحثاً وركضاً خلف رياح الحداثة والتطور للمدينة الحديثة شمالاً حتى غابت كثيراً من ملامح الحياة الاجتماعية والإنسانية التي كانت تدب في أرجاء المنطقة برحيل سكانها عنها وحلّت بها العمالة التي تبحث عن المسكن الرخيص والقريب من الأسواق التجارية التي تحيط بالمنطقة، وكان الغياب بالجملة لسنوات طويلة في تنفيذ المشروعات التطويرية الحيوية بينما الطموح كان رحباً لمحبي تاريخها وأيضاً لواقع المنطقة الذي كان ولا زال يفرض ويستوجب اهتماماً أكبر بحجم ما تحتويه المنطقة من أثر وعبق وتاريخ ومناقب لها من الخصوصية الشيء الكثير في كونها تجربة إنسانية لها طبيعتها المستقلة وهذا لا يغفله كل من يمر ويتجول في طبيعة المكان وجمالياته فتأسر وجدان الزوار.
ما أود قوله هو أن هذه المهرجانات حققت إضافة نوعية وقفزة هائلة في مساحة الإقبال على المنطقة وفي تنشيط زيارتها بتنظيم متقن ولكن تلك التنظيمات المهرجانية هي وسيلة وليست غاية في طبيعة حاجتنا إلى انطلاقها واستمرار فعالياتها وهي جواد رابح نمضي به لجمهورنا العريض وللأجيال التي تنتظر بشوق قراءة تاريخها المشرق ونضال سابقيهم في عراكهم وشقائهم ومكابدتهم لظروف الحياة ومصاعبها.
لذلك علينا أن نتوقف لمسألة في غاية الأهمية حتى لا ننساق خلف بريق الأضواء الجميلة البرّاقة في أن مثل هذه المهرجانات هي وعاء أنيق وبهيج نقدم به ما هو معروض من مقتنيات أثرية وتاريخية تتمثل في النماذج العمرانية الفريدة بأصالتها وجمال صناعتها كمنتج من البيئة وتحمل في جينها روح المكان وفكره المجتمعي وتقاليده المتوارثة وكذلك في طبيعة الأحياء الأزقة المتعرّجة والأسواق القديمة والتفافها بالحارات وغيرها من المشاهد التاريخية التي تحكي تاريخ المدينة وزمنها القديم.
وما أود تقديمه من مقرحات إنما ينطلق من ضرورة أن تشمل هيكلية التصميم لنموذج كل مهرجان استقلالية متفردة تستهدف العرض والتوثيق والتدوين والبحث في مكونات الثقافة المحلية وبحيث تغطي فعاليات هذه المهرجانات الممتعة بالرصد والتوثيق والعرض مفردات عديدة ومتنوعة لمكونات الثقافة المحلية التي تشكل هوية المكان وملامح حياته وماضيه ، لذلك فإن قيام مثل هذه المهرجانات هي فرص ثمينة وتاريخية لتأصيل الحضور الذي يستوعب هذا العمق الفكري الأصيل الذي يتلاشى كثيراً منه مع مرور الزمن.
فمن المهم أن تسلط هذه الجهود جانباً عظيماً من الاهتمام بتوثيق مخرجات هذه المهرجانات بنسخها المتعاقبة ويتحقق لكل مهرجان منجزه من الوثائق المختلفة كالإصدارات المتخصصة التي تحقق بتنوع وتعدد اهتماماتها في الطرح والتناول هذه الشمولية التي نقصدها ، وسيقدم لنا ذلك مع تعاقب التنفيذ رصيداً هاماً ووفيراً من الموضوعات الفكرية والثقافية التي تشمل جميع مظاهر الحياة قديماً لخدمة الباحث والمهتم ومحبي المنطقة ولتاريخنا الثقافي والانساني.
مثل هذا الطرح سيحول كل مهرجان إلى مشروع مستقل يعرض لمنتجات ثقافية بحيث يتبنى كل مهرجان طبيعة موضوعية متخصصة من حيث طبيعة الاهتمام ونوعيته وما يتطلبه من إعداد يتناسب مع طبيعة الطرح المختلف الذي سيستأثر بجانب من ثقافتنا المحلية وسيكون لدينا مع تعاقب هذا النسق المخطط في التنفيذ رصيداً موسوعياً هاماً يتسع دائرة اهتمامه ليشمل أطروحات مختلفة عاماً بعد عام.
وهذا سيقودنا للخروج عن مأزق التكرار ونمطية الشروع في التنفيذ والذي قد يحوّل المهرجات إلى حالة من التجمهر التسويقي الذي ينتهي أثره ويخفت ضوءُه ويتلاشى بريقه بانتهاء التنفيذ المقيد بزمن محدود ، فينفضّ بعدها السامر وكلّ يعود إلى حيث كان حتى حلول مهرجان قادم بذات الوتيرة في التنفيذ.