المعدن النفيس لا يصدأ ولا يخفت ضوؤه ولا يتقادم مع مرور العمر المديد .. بل يزداد بريقه تألقاً كلما مضى به الزمن بعيداً وتحتفي به الأجيال جيلاً بعد جيل .. وهكذا هي جدة التاريخية المدينة التي يحتفي تاريخنا بوجودها فتزداد بهاءً ووهجاً..
وهنا يجب أن لا ابتعد كثيراً وصف زاوية من المشهد نحو تلك المدينة التي تقتات على جذور التاريخ القديم في محاكاتها للأحداث وفي مجاراتها لوتيرة تعاقب الأجيال تحت سمائها وفي أرجائها وزواياها المورقة بالقصص وحكايا الأزمان الغابرة .. فجدة القديمة وحتى عهد قريب كانت تعيش منزوية عن عالمها الخارجي بينما يفترش العالم بمختلف أطيافه وأجناسه ساحتها الأثيرة بملامح التاريخ الإنساني الفريد ..
وكانت قبل هذه المهرجانات الاحتفالية تستقبل زوارها وعشاق تراثها وعبق ماضيها وإرثها الحضاري العريق بلا أضواء ولا ضجيج وبهدوء تفرضه حالة الوجوم والدهشة التي يقع تحت تأثيرها كل من يزورها لأنه حتماً سيتوقف أمام تجربة إنسانية لها عمقها الضارب في جذور التاريخ القديم وفيها تجربة إنسانية لها خصوصيتها لاحتوائها ثقافات متنوعة امتزجت تحت سماء المدينة من مختلف الأمصار والأجناس والمشارب ، قد منحها ذلك الانصهار المتجانس حالة فريدة من التنوع فهي بوابة الحرمين الشريفين وميناءها ومعبرها البحري الوحيد وبها خزانة السلع الوفيرة حيث تتصدر أسواقها واجهة المنطقة تجارياً بعروض متجددة من الشرق والغرب ما أكسبها أهمية خاصة.
وكان بمجرد أن يفد إليها زوارها تجتذب أنظارهم إلى حد لا يجعل لها ما يساويها في مقومات الطبيعة التاريخية المتاحة يبدو ذلك ظاهراً في مظاهر تراثها وفي ملامح نسيجها الثقافي والاجتماعي والإنساني ، فالمكان يستأثر وجدان المارة والمشاهدين والعابرين بجماليات تكوينه التاريخي وسماته البديعية الفريدة مع قلة ما كان يبذل من جهود في الماضي وتباعد وندرة الفعاليات التنظيمية التي لا تضاهي ما تحفل به من ملامح تاريخية وحضارية وخاصة إذا سلطنا الضوء على حضورها التاريخي عبر مسافات الزمن وامتداد عصوره السالفة..
فالمكون الطبيعي بتشكيلاته المختلفة يقدم المدينة بحالة من الإبداع الذي لا يمكن ابتداعه في صناعة سياحية داخلية مثيرة وجاذبة للزوار ، إنما التاريخ الذي تستوعب جدة القديمة صفحاته وفصوله وأحداثه وتجربته قد ارتبط بطبيعة الأرض وجغرافية المكان فجعل للمدينة الأصيلة حالة لها من الخصوصية ما لا يمكن استنساخه وتجسيده في غير هذا الحضور .. فالمشهد يغني عن كثير من الوصف وابتذال الخوض في تمجيد وتبجيل ذلك الأثر وحكايا التاريخ غنية وآسرة لمن يتجول في الحارات القديمة والأزقة المتعرجة وفي أسواقها القديمة وفي طبيعة انسجامها وانسياق تصاميمها وفي بيوتها الحجرية التي تحاكي حياة الإنسان على هذه الأرض وطبيعة المكان وظروف بيئته الصعبة.
لذلك فقد جاءت المهرجانات التنظيمية في مجمل أطروحاتها ملفتة ومثيرة للجمهور وعلى ما تقتضيه ضرورة أن يستأثر موروثها بهيكلية التصميم كتخطيط وتوثيق وحفظ، وقد أثبت الإقبال حالة التفضيل والميول إلى هذا النوع من التنظيمات المهرجانية لاستقطابها مقومات طبيعية تاريخية وثقافية وإنسانية ، وكأن الروية لطبيعته المكان وظروفه باتت مختلفة عما كانت عليه النظرة التقليدية الباهتة من قبل، ولكن المنطقة القديمة عندما حضرت في ساحة الحدث وعبر تنظيمي سياحي ومهرجاني متخم بزخم الدعاية والترويج استأثرت بإقبال ملفت وغير مسبوق لجميع التنظيمات المماثلة لا سيما في تكرار تجسيد المهرجان في أكثر نسخة على مدى الأعوام السابقة وقد أفصح حضورها المثير للجميع من مسؤولين ومنظمين وعامة من الناس تلك الحالة الفريدة من احتضانها لمشاهد التاريخ ، ولا استشهاد لذلك أجدر من توافد أجيال متعاقبة من أبناء المدينة وزوارها ومنها أبناء جيل جديد لم ينعم بالعيش في المدينة القديمة ولم يستشعر دفء حياتها سوى ما كانوا يستمعوا إليه من حكايات سابقيهم وأسرهم عن القديمة وماضيهم التليد .. وبذلك تشكلت حالة من الانصهار الوطني وليس السياحي فقط لارتباط المدينة التي كانت تعيش داخل سورها بأحداث وطنية على مدى أزمنة بعيدة.
تلك المهرجانات قد أخرجت المدينة القديمة من التغريد خارج سرب الأضواء الاعلامية وضجيج الشهرة الرائجة كحال مثيلاتها من المدن التي تمتاز بما امتازت وحظيت به من مقومات التاريخ والجغرافيا فعادت المدينة إلى قلب الحدث لتسجل حضورها على صفحات الهواء الطلق ككتاب مفتوح يقلّب الزوار صفحاته ونالت اهتمامها المستحق كمتحف عالمي يحكي عن ثقافة المنطقة وفنونها وموروثها.
كلما نتذكر حال المدينة قبل أن تعرف طريق البريق الإعلامي وأضواءه الصاخبة نستدرك ما كان قد مضى من زمن كنا نرجو فيه بصيصاً من هذا الجهد لتنال المدينة استحقاقها من الاهتمام ولكنها بدون أدنى شك تعد تلك الجهود نقطة أولى في طريق طويل وممتد نحتاج فيه للعمل بوتيرة متسارعة تمثل حالة سباق مع الزمن من أجل استدراك ما قد مضى من وقت لم تحظ فيه المدينة التاريخية بهذا الإقبال الذي تستحقه وتزهوا بوفوده.
وهذا ما يجعل المدينة القديمة في سباق محموم من أجل تخطي كثير من العقبات والظروف التي تكالبت عليها نتيجة ضعف تنفيذ مشروعات البنية التحتية وتطوير سياحتها لتواكب حجم الاقبال المنقطع الذي تشهده .. فجدة التاريخية تجمع في تواصلها من حيث التكوين البنائي والإنشائي بين مفردات التاريخ القديم وحداثة الحاضر مما يجعلها تحتل الموقع المتقدم من حيث الأهمية ووفرة المقومات وكذلك في أنها من نبت أرض المدينة ووليدة تجربة ساكنيها القدماء في كل زاوية وركن أصيل بها ..
فجدة التاريخية قد انتزعت أهمية وجودها مع تواتر الأجيال المتعاقبة وحتى وقتنا الراهن عندما نتلمس ملامح الإعجاب والتأمل في عيون زوارها من أبناء الجيل الحالي وفي أنهم يمضون في أرجائها أوقات متعهم ويتركون عند مشاهداتهم فضاء الأسئلة المفتوحة عن طبيعة المنطقة وما آلت إلى من حال يستوجب منا مزيداً من الاهتمام والعناية لكل ملمح أصيل في فضاء المكان الفسيح بتراثه وفنونه وبعبق ماضيه الأصيل.