جاء إلى شاطئ بحرها قادماً من رمال الصحراء يفتح لسكانها وأهاليها صفحة جديدة من الحياة والمستقبل، مع كل المسافات التي تبعد سكان البحر عن طبيعة الصحراء من مفارقات واختلافات حياة المدن الساحلية واجواء وطقوس البادية ، فأحبه سكانها ونصّبوه ملكاً عليها بتاج الصدق والمحبة كأنه ضيف عزيز حل للوهلة الأولى على المدينة وسكانها. بل أن سكان المدينة لم يخفُوا تلك العلاقة التاريخية الحميمة التي ربطتهم بجلالة الملك عبدالعزيز منذ البداية الأولى لمعرفتهم به وارتباطهم به هي علاقة ليست في روابطها ووشائجها كالتي تربط حاكماً بمحكومين، أو ملكاً بشعب لم يدخل على أهلها بحكم السيف، إنما كانت لهفة انتظار السكان والأهالي لحاكم عادل وملك رحيم وقائد شجاع يحمل هموم المدينة ويقودها إلى صفحة جديدة من التاريخ، بعد زمن طويل عاشته المدينة واتعب سكانها من صعوبة في العيش وتوفر سبل الحياة ومصاعبها، بل كانت في المدينة التي تتمدد على ساحل البحر عناء ازلي اسمه أزمة المياه وندرة توفرها وغلاء ثمن قطراتها، ومشاكل أخرى كانت المدينة تستيقظ عليها صباح مساء من سوء الأمن وعدم الإحساس بالأمان، لذلك كان الأهالي بانتظار حاكم يريح المدينة من همومها ويستريح بعده السكان من أزماتهم ومشكلاتهم ويستعيدون طموحاتهم التي توقفت أزماناً طويلة مع شح المياه عصب الحياة وأساسها.جدة المدينة كانت تعيش عند دخول الملك عبدالعزيز عام 1344ه داخل سور قديم يحيط بها من كافة الجوانب ذي أربعة أبواب تقفل ليلاً لمنع تسرب ودخول اللصوص، باب البنط وباب مكة وباب شريف وباب جديد، وتعيش ليالي المدينة على أضواء الاتاريك مجالس العمد حيث تحركات العسس ليلاً بين الحارات للتنبيه بالصفارات على أي غريب يتسلل إلى المدينة وأبوابها المعروفة.هكذا كانت الحياة القديمة التي تعكس تاريخها لقرون مضت قبل مجئ فارس مستقبلها عبدالعزيز فضم جدة تحت لوائه وأصبح ذلك الحين حاكم نجد والحجاز، وكان التآخي الذي يصفه الحال ذلك الوقت غريباً في بداية الأمر بين نجد بما تعرف به صحراؤها وطبيعتها وتضاريسها ومناخها وطبيعة سكانها والحياة فيها عموماً. وبين حياة المدن الساحلية حيث الارتباط بالبحر واعتماد سكانها على مهنة الصيد إلى جانب مهن أخرى يعيش سكانها وأهلها على الظروف التي تفرض على اهتماماتهم وطريقة العيش والارتزاق. إنما هو تآخ كان من حيث التسمية وطبيعة العلاقة متوائماً ومنسجماً ومتوافقاً جداً مع ملك مثل عبدالعزيز استطاع في ارتباطه الشخصي بسكان جدة ان يذيب كل هذه المسافات الطويلة التي تفصل بين المدينة تنام على البحر والمدينة أو المنطقة الأخرى التي تتوسد رمال الصحراء وبراريها، هو الوطن الذي التحم واتسق على يد عبدالعزيز الملك مع اختلاف متباين بين ظروف الحياة الاجتماعية وفارق التضاريس الجغرافية والمناخية، فقد كان الوطن تحت ستار حكمة ودستوره الذي وضعه الملك قائماً على القرآن والسنة النبوية الشريفة أكبر من جميع هذه الاختلافات في الظروف حتى عرفت المملكة العربية السعودية بأنها أشبه ما تكون بقارة من حيث مساحتها وتباين ظروفها الجغرافية.
(وعود تاريخية لماضيها)
وأجمل ما في ذكريات جدة القديمة هو تلك العلاقة الإنسانية الحميمة التي تربط جلالة الملك بالسكان، فلم يفرق بين كبير أو صغير، قدم لهم رعايته ودعمه في جوانب متعددة لم تكن تستهدف فئة ولا مجموعة خاصة بل وفر لهم المياه بالمجان بعد أزمة طويلة من العراك والشقاء مع هذه المشكلة والمعاناة التاريخية الطويلة بإنشائه لعين العزيزية التي تأتي بالمياه من خارج المدينة ليرتوي بها سكان جدة وكان التوزيع العادل لجميع الأسر بالمجان هدية كريمة من جلالته إلى كل ساكن فالروابط الإنسانية في علاقة الناس بالملك بهذا الاهتمام والرعاية التي أحاطت الناس كباراً وصغاراً وساوت بين جميع الأسر والفئات بعثت ذلك التأكيد الجماهيري والشعبي بصوت واحد نحو شخص واحد ادرك الجميع أنه يسعى من أجلهم لم يأتي ليفرق بل ليجمع اشتاتها. ولم يكرم اغنياؤهم بل لامس احتياج فقرائهم فكانت خدمة للجميع دون تفريق ودون تمييز فإن تلك العلاقة أو ذلك التأييد هو رأس المال الذي يبحث عنه الملك الذي يريد مصلحة شعبه ويقدمها على جميع الاعتبارات والمصالح.(ملك بلا أسوار ولا قلاع)ويروي لنا الشيخ محمد سعيد متبولي قصة تاريخية كان الناس كثيراً ما يرددونها تلك الفترة ويقصد بذلك بداية دخول الملك للمدينة: "كان الصدق هو الأساس والرابط المتين في علاقة الناس بمليكهم، والحق الذي يجب أن يقال بأن الناس لم يكونوا في بداية الأمر أكثر من الملك حرصاً على أن تكون هذه العلاقة بهذا الشكل بين الحاكم وشعبه ذلك ان أي حاكم يمكن له بسهولة ان يقفل الأبواب ويوصد جميع المسالك التي تؤدي إليه ويعيش في برج عاجي لا يصل إليه أحد محاطاً بخاصته وبطانته، لكن الملك الذي ظهر في حياتنا لم يكن كذلك أبداً، كان الملك عبدالعزيز عطوفاً رحيماً قريباً من هموم الناس متعطشاً للسماع إليهم بحد لا يزيد عن تعطشهم لحلها ووضع نهاية لها مثل مشكلة ندرة وشح مصادر المياه فقد أمر الملك عبدالعزيز على الفور ودونما أي دراسات مسبقة أو اجتماعات لتباحث الأمر مع المسؤولين فمجرد أن استمع إلى مشكلة المياه أصدر أمره الكريم بإنشاء عين تسمى العزيزية تخدم الناس وتزف المياه إلى بيوتهم بالمجان، فكيف لا يحبونه و لا يؤيدونه، ولا يكون في هذه المكانة التي ليس بمقدور حاكم أن يحققها. فمن السهل كما نعرف أن ينعزل الملك عن الناس ويبتعد عنهم ويجعل الحواجز والأسوار والقلاع فلا يستمع و يصل إليه بعدها أحد، ولكن من الصعب والعسير والمكلف أن يستمع ملك بهذه الرحمة والإنسانية واللطف إلى رأي من يقصده لحل مشكلة أو طلب المساعدة أو غيرها من مطالب الناس واحتياجاتهم ومعاناتهم مع صعوبة العيش وعورة دروبه.
(قصة العجوز العمياء)
ويتابع الشيخ محمد سعيد متبولي: "القصة التي كان يرويها الناس يتعلق بعجوز عمياء وصل صيتها لجميع أزقة وشوارع وأحياء المدينة كانت قد التقطت كيساً من الريالات الفضة التي يوزعها الملك أثناء مروره في طرق وشوارع المدينة، حيث ينتظره الناس على شوق ويهتفون له وهو يرمي لهم بريالات من فضة تعبيراً عن سعادته بلقائهم و محبته لهم فما وجد أكثر تعبيراً و أثمن إهداء من ريالات الذهب والفضة حتى يرسم السعادة والبهجة والسرور على وجهة مستقبليه في جميع الطرق التي يمر فيها بسيارته. وقد نبه البعض جلالة الملك بأن واحدة من اللاتي استلمن كيساً من الريالات الفضة هي عجوز عمياء قد يصعب عليها أن تفرق بين الفضة وغيرها وقد تتعرض للسرقة من غيرها كما فكر الملك صاحب القلب الكبير فأمر أن تعود السيارة مرة أخرى إلى الموقع الذي كانت فيه العجوز تنتظر مع الناس وتهتف باسم الملك وهي في غاية سرورها وابتهاجها. وما أن توقفت السيارة حتى خرج الملك شخصياً وحياها و نبهها بأن ما لديها في الجراب هو من الريالات الفضة الثمينة ذلك الوقت حتى لا تتعرض للسرقة أو الاحتيال من غيرها وأهداها جراباً آخر فيه من الريالات الذهب ما هو أثمن وأغلى وأنفس من الفضة حيث تعجب الناس لهذه اللفتة فقد عاد الملك ليطمئن على استيعابها لثمن ما في داخل الجراب الذي التقفته أثناء سير الملك فأخبرها بقيمة ما بداخل الجراب وأعطاها بكل الحب والصدق في العلاقة جراباً آخر من الذهب فدعت له العجوز العمياء وأكثرت له في الدعاء وهي ترفع يديها للسماء بأن وفق الملك وأنصر الملك وآته من الرزق ماليس له حد.
هذه القصة نسجت داخل قلوب الكثيرين شخصية بطولية للملك الذي لا يستخدم مع السكان غير البساطة والرحمة ومع همومها ومشكلاتها غير القوة والحزم، فكان الناس لا يتوقفون عن ترديد تلك الملاحم الإنسانية التي تعطي جانباً من البطولة طبيعة العدل واللين والصدق عند التعبير عند ارتباطه بشعبه المحب.
(ذكريات جدة القديمة)
وهذه المدينة القديمة التي ارتبط الملك بهذه العلاقة الفريدة واللافتة قوامها الصدق ووشائجها الولاء والتقدير وأساسها الحرص الدؤوب والتفكير المخلص لتلبية طلبات الناس وتحقيق مطالبهم والارتقاء بمستوى معيشتهم. هي نفس المدينة القديمة بحالها القديم تمثل مع مرور هذا الزمن محبة تاريخية تعد الفريدة من نوعها على مستوى مدن الخليج العربي عاشت طفرة ظهور النفط ولكن حافظ عليها وعلى تراثها العريق وماضيها التليد الملك وابناؤه من بعده بنفس السياسة وروابط العلاقة القديمة التي بدأت بدخول الملك تحت هتاف الناس وتأييدهم واستبشارهم بالخير الذي حل على المدينة وسكانها نعيم مغدق. ويظهر هذا جلياً وبوضوح لمن ينظر إلى جدة الجديدة بالتطور في التخطيط والانتشار والعمران والخدمات والتوسع المتنامي شمالاً بما افرزته مراحل الطفرة الحالية نتيجة ظهور النفط من سرعة نمو وإنشاء وانتعاش اقتصادي أذهل في حجم انشائه جهداً وزمناً قياسياً زاور المملكة في فترات متعاقبة بعد مضي سنوات من مراحل النهضة والتنمية، فجدة الجديدة هي مدينة التطور والتخطيط الحضري والازدهار العمراني واحدة من أجمل مدن الشرق الأوسط وأكثرها فرادة وتميزاً، ويكفي عند من يريد أن يدرك ذلك أن يأخذ جولة مكوكية سريعة لكورنيش المدينة وشريطها الساحلي حتى تسحب انظاره بالتدريج ميادين عالمية الأفكار معلقة في مجسمات جمالية ممتعة ومدهشة لمن ينظر إليها، هي مدينة حديثة يزداد موسماً بعد موسم حجم وكثافة الإقبال عليها سياحياً وتجارياً، فلم يتوقف التاريخ عند القديمة التي جاء الحفاظ على مبانيها كونها محمية تاريخية تعطي الانطباع التاريخي لحقب تاريخية مديدة عاشتها المدينة بين الأزقة والممرات والساحات والأسواق الشعبية والخانات القديمة أو فنادق الأمس التي كانت تستقبل الحجاج المارين على المدينة في طريقهم إلى مكة لأداء المناسك المقدسة ، وجولة واحدة في اليوم بين جدة القديمة التي تربط الماضي وأحداثه التاريخية بالمدينة الجديدة صاحبة الحضارة الحديثة والتقنية التي لا تتوقف بمستجداتها عند حد والتطور المذهل الذي يعيشه العالم يوماً بعد يوم هو في جدة الجديدة المدينة التجارية المعروفة.
معدن نفيس لا يفقد بريقه
وهنا يذكر زيد سندي بأن المفارقة أكبر من المقدرة على التعبير وان كانت في فترة قصيرة من الزمن الذي عاشته المدينة القديمة شاهداً على مر العصور فإن نمت الجديدة في عشرين أو ثلاثين عاماً فإن القديمة بماضيها وتراثها وفنونها وصناعاتها القديمة عمرت مئات السنين، وكان الحفاظ عليها وحمايتها من الهدم والازالة لكونها معالم وطنية وحضارية ينبغي ان تظل في حياة السكان والأجيال على مر العصور هي الوجه الذي يزداد لمعاناً كلما تراكمت على عمره السنين كالمعدن النفيس لا يصدأ أبداً ولا يفقد لمعانه وبريقه بل يزداد كلما اعطيناه وقتاً من الزيادة والاهتمام فهو ماضينا الذي نفاخر به الأجيال ويعكس حياة الآباء والأجداد قبل عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله وبعد مجيئه ليرسم لمدينة جدة صورة تاريخية فريدة لن ينساها الناس هنا على مر الزمن كيف لا وهو الفارس الذي أنقذ المدينة من الفوضى إلى أمن ورخاء وارف، ومن صعوبة العيش وتردي الأوضاع إلى نظام معيشي وخدمات كانت كفيلة بتطور الحياة وسرعة نموها برفاهية ادرك الناس حينها مستوى الفارق الكبير بين الحياة تحت نظام عادل ورؤوف بالناس وبين ما كان اشتاتاً متفرقة ليس نظاماً وليس حكما فشمل الجميع تحت نظام موحد أساس لبناته الأولى هو الارتقاء بحياة الناس وتقديم الخدمات اللازمة لهم وحل مشكلاتهم وترتيب أمورهم والاستجابة لمطالبهم في عهد وزمن بسيط من حيث الإمكانات والسبل، شحيح من حيث توفر فرص العمل ومصادر الرزق.
شاهد تاريخي لمستقبل المدينة
هذا هو جلالة المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز كما بصفة الناس دائماً الذين رافقوه وعايشوا أيامه واستمعوا إلى خطبه ووعوده التي تحققت، منبعها الرغبة الصادقة لخدمة مجتمعه ووطنه، كان يتعامل على انه مواطن بين الناس يتجول بينهم ويعيش طبيعة حياتهم البسيطة. ها هي مدينة جدة القديمة التي أحبها وسعى لتطويرها وتنميتها في عهده وزمانه فغدت على يد أبنائه من بعده واحدة من أجمل وأهم المحميات التاريخية التي تحاكي الهواء في دول الخليج وان لم تكن المحمية الوحيدة التي انفردت بمشروع الحماية لمآثرها وتاريخها التليد داخل السور التاريخي الذي دخله عبدالعزيز في مظاهرة احتفالية شعبية أعلنت علاقة الولاء والانتماء والحب الذي تبادله مع الناس هناك حيث تحقق بإمكانيات بسيطة ومقومات متواضعة ما ينظره الناس من خدمات ومطالب وها هي الآن تحكي للزمن والأزمان القادمة مسيرة بطل قادها عبر التاريخ إلى التطور والنماء والازدهار حتى كانت جدة الجديدة الوليدة المبهرة بما فيها من تطور ونمو وعمران واحدة من أجمل مدن الشرق الأوسط.