لماذا أهمية البحث في الموروث

الكاتب: عبدالعزيز أبوزيد
المصدر:

أمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل ..

قد لا نزيد كثيراً إذا استعنى بالمقولة الشهيرة التي تمسّ الموروث كقيمة وإرث حضاري له ثقله في حياة المجتمعات .. وهناك من الفلاسفة من ينظرون للمجتمعات فيقرأون واقعها ويتأملون مستقبلها من طبيعة الاحتكام لصوت حضاراتها القديمة كقيمة تمنح تلك المجتمعات عمقاً وجدانياً وروحياً لن تذبل وتتهاوى بعده ..

ولن تستلقي تلك المجتمعات على هوامش التاريخ مهما تراجعت وواستحكم عليها التأخر عن الركب المتطور  ، فهذا فالمخزون كالوقود الحي الذي يظل على هدوءه وثباته كامناً ولكن لا يموت في حياة المجتمعات التي لها تاريخ ، وهو كالعملاق الذي ينتظر من يوقظه من سباته للوثوب إلى حيث كان في تخطي الآفاق وحواجز التحديات فالأسباب أن تعددت وتناثرت فإن الثابت هو ثراء ذلك المخزون الفكري بقيمته الإنسانية التي لا تقدر بثمن.

ولأن الجذور الأصيلة لا تموت فستظل حارات جدة القديمة تحمل عبق تراثها الأصيل المزدهي بألوانه الجميلة وبتفاصيله البراقة التي لا تحتاج إلى أضواء ولا إلى تضخيم منجزات للتعريف بمحتوياتها التي تسرق الأنظار بروعة مقتنياتها ومعروضاتها والتي ترمي بنظرنا إلى حالة خاصة بارتباط المدينة بجميع ملامح تاريخها القديم.. 

ذلك الموروث الأصيل هو من ولادة تلك الأرض وخرج من رحم تربتها الضنينة والأثيرة ، وسيظل يحمل رائحتها وأصالتها ، مهما ترددت عليه رياح النسيان وتعرض للهجر والتغافل والإهمال فالأجيال التي نشأت في تلك التربة تحمل ملامح ذلك الموروث الذي يخصها دون غيرها بتلك الملامح ولن يتغير ذلك الأثر  مهما تغيرت ملامح العصر واختلفت وسائلة وظروف العيش فيه من ظروف الماضي القديمة إلى عالم اليوم الذي يستوعب كل أشكال الحداثة وملامح النهضة والتطور في كل الحقول .

تلك الجذور لا تموت لأنها تشربت سقياها من دماء تلك الأرض فنمت وأخرجت طلعها من منابت تربتها فتكيفت وتواءمت في رحم تلك التربة ومنحتها قدرة العيش ومقاومة ظروف بيئتها الصعبة واكتست بذلك الانتساب الأصيل كل مقومات البقاء على هذه الأرض فهي من تحمل جينات البيئة الجغرافية والطبيعية وهي تجربة الإنسان بكل ما تعنيه من كلمة  إلى ما شاء الله للإنسان ان يبقى فوق تراب هذه الأرض. 

من هنا نستطيع الحكم بقطعية أن لكل منطقة طبيعة هوية وطبيعة تكوين مختلفة عن الأخرى وعن تجربة الإنسان في هذا المكان عن غيره في الأزمنة القديمة والتي تستعرض قصة تستأثر بنسيج خاص وفي ذلك جبروت القدرة على البقاء والتطور ومقاومة الظروف الطبيعية والبيئية فإن تلك الجذور الأصيلة ليست شكلية ولا طارئة أو مستنسخة كما هي مظاهر الحضارة المستحدثة التي لا تعيش طويلاً لأنها مستوردة من ثقافات مادية ليست من نبت المكان ولا من تكوين بيئته ولا ثقافة مجتمعه ..

كذلك هو الموروث التاريخي الإنساني والاجتماعي بما يحتويه من مضمون وما يطرحه من أفكار ومعتقدات وبكل ما يحتضن من مضامين وما ترمي به من مفاهيم وأفكار إنما يعبر بصدق عن حياة تلك المدينة وأسلافها السابقة.

إنها تجربة تلك المدينة باختصار وايجاز ..  تلك التجربة كلما خطونا وسلكنا درباً لدراسة وبحث شيئاً منه أدركنا أننا نلامس جذور المدينة الأصلية التي تعكس بجلاء كل المتغيرات الظروف والتأثيرات التي مرت بها المدينة وشكلت بها ومعها حالة إنسانية فريدة تعبر عن عمق التجربة في هذه الأرض عن غيرها من البقاع في أرجاء المعمورة.

ولعلي لا أتحدث هنا عن فن بعينه أو مجال مخصص بل يمتد ذلك بالتأكيد كل ما سلكه الإنسان من دروب وشق فيها من منافذ وطرق بحثاً حياة آمنة وعن السعي الحثيث لتوظيف كل عناصر البيئة وعن تغلبه على مصاعبها وهمومها ومواجعها حتى تشكلت أمامنا منظومة الحياة في مدينة متألقة وتزداد بهاءً عند احتفائها بماضيها يوماً بعد يوم .

فها هي البيوت والآثار العريقة بفنون تشييدها وبنائها الذي تشكلت ملامحه على مدى أحقاب قديمة معتمدة في صياغة أفكارها التي تسرق الأنظار في زمننا هذا بروعة فنونها المعمارية على مواد من البيئة وأدوات وطرق بناء تقليدية انصهرت في تشييدها على يد الإنسان في تشكيل الحجر وبسطه وقصه وتهذيبه وكذلك على ووسائله البدائية في صناعة البناء قديماً فقدمت لنا ثروة هائلة من الملامح الفنية التي تزداد بهاءً مع تطور الزمن وحداثة العصر.

وغير ذلك من النماذج التي تبدو أمامنا  اليوم حريةً وجليةً بحقيقة ما تكتنزه من ثروات هائلة ومن تجارب إنسانية جديرة بكل ما تعنيه الكلمة من اهتمام وعناية ورعاية لتوثيقها ورصدها والبحث في أعماقها بمنهجية لا تسمح بغير الاحتفاء بكل ما يجيء فيها من أثار. بل أنني وغيري من الباحثين علينا أن نقدم موروثنا التاريخي والإنساني كمنحوتة أثرية لها قيمتها التاريخية ومن غير التدخل المستقصد في تغيير أو طمس شيئاً من مكنوناتها الرمزية بوصفها ملمحاً أصيلاً من الواجب علينا أن نعيره اهتمام البحث والعناية والعرض بذات القدر الذي نبتهج فيه ونحتفي عند عثورنا على كل جديد نستكشفه ونضيفه الى ثروة المعروض والمستكشف لدينا .. وكأننا نجمع حبات عقد منفرط من الأحجار الكريمة والمعادن النفسية التي لا تقدر بثمن والتي أيضاً يزداد بريقها قيمةً وأصالةً مع تجاوز الزمن لها لتظل شاهدة على أصالة هذه الأرض وعراقة تجربتها الإنسانية .

 

Back