مشبب الأصم هو شخصية أقرب إلى العقل من الجنون .. البعض يطلق عليه مشبب الأبكم أي الذي لا يقوى على الكلام ويعمل في وظيفة بسيطة جداً في إحدى البنايات بواباً لمواقف السيارات الخاصة بها .. السيجارة لا تفاق فمه .. دائماً تبدي ملامحه عكس ما يمارسه من سلوك هادئ ، فملامح وجهه فيها من الشراسة الغائرة التي تجعل من لا يعرفه يحذر من الاحتكاك به ولكن سماته السلوكية مع محيطيه تجعلهم يمضون معه أوقاتاً تزيح عنهم بؤس الحياة وضغوطها ..
لكنهم من مواقف نادرة حدثت اكتشفوا في شخصية عنف يستعصي على أحدٍ منهم تهدئة براكين الغضب الثائرة في داخله يظهر ذلك تحديداً عندما يتجاوز أحدهم الحدود الخاصة لمشبب وهي خطوط لا يسمح لمخلوق على وجه الأرض بتجاوزها ، فتظهر في انفعالاته شراسة مبالغ فيها قد تؤدي إلى مشاجرة لن تنتهي بحال مرضٍ لأي طرف ، لأن مشبب قد يحمل عصا حجر أو يلجأ لأداة حادة للانتقام من غريمه فضلاً عن الهجوم السريع بيديه لتأديب من تجاوز حدوده معه فيما يثير غضبه .. فهو لا يرضى بممازحة تشعره بدونية لشخصه توصله إلى شعور سلبي واضطراب انفعالي مزرٍ .. فالسخرية عليه بما يزيد عن الحد المقبول ممن لا يعرفه أو من بعض الأشخاص المتجرئين عليه لهزالة جسده ولضعف شخصيته
كما أن عدم قدرته على النطق بوضوح تمكن الآخرين من فهم لما يقوله عند غضبه تزيد من أمره تعقيداً مما يفاقم غضبه واستيائه من تصرفات الاخرين ، فهو دائما ما يواجه متطفلين يحاول الاستهزاء به وتحقير شخصه لعدم قدرته على الرد بغير كلمات قد تصطنع في حياتهم مواقف كوميدية لا تتحقق في غير هذه الحالات ولا سيما مع ردود الفعل الغير محتملة من .. ويستمرون في اجترار غضبه حتى تصل الأمور عنده إلى حدود مغلقة تقوده للجنون بتصرفات لا تصدر عن عاقل تثير سخريتهم ومتعتهم الرخيصة على حساب راحة وهدوء مشبب فهم كمن يثير الرياح والرعود والبروق باستماته تستهلك منهم أوقات طويلة حتى تسنح لهم الفرصة بالانفراد به واستثارة أعصابه الهادئة فلا يجد وقتها بداً من اللجوء الى أي حجر لرميهم به وللنيل منهم او إذا استعان بعصا غليظة لتلقينه درساً لن ينسوه ولكن مثلهم مستعدون للفرار يمنة ويسره لأن مرادهم قد تحقق في استثارة فورة انفعالاته وإخراجه عن طور طبيعته إلى حيث الجنوح للجنون ..
المضحك فعلاً الذي يقع مع مشبب في هذه الموقف يكون في وضعية سيئة إلى أبعد حد يتصوره عقل لأن الشر المستحكم الذي يتمكن منه والشرر المتطاير من عينيه تجعل من يلوذ بالفرار سريعاً ولا يحاول البتة ومهما كان الضرورات لأن يسير في موقع يتواجد فيه مشبب وبالذات في مكان عمله حيق مواقف السيارات التي يعمل على حراستها ، لان مشبب على تعبير محيطيه من الشخصيات الحقودة ولا ينسى من يسيء إليه أبداً ولن يتراجع أو يتردد في تكرار المحاولة مراراً وتكراراً كلما شاهد خصمه غريمه في موقف ما أو مكان ما ، فالخصومة عند مشبب وفي نفسيه مستديمة لا نهاية لها فإما أن تكون صديقه أو شخص اعتيادي أمامه أو تكون مكروهاً ومنبوذاً وحقيراً في نظره ولا ينتظر أن يتكرر معه موقف مشابه ف المستقبل مع الأشخاص الذي وضعهم في خانة المغضوب عليهم فيقفل باب علاقتهم وينتظر الفرصة للنيل منهم بأخذ حقه منهم لو شاهد أحدهم في أي موقف لذلك فالعبث مع مشبب ليس بالأمر الخالي من المخاطر لأن الثأر لن يهدأ في نفسه تجاه من عبث في تقديره ومن تعمّد الإساءة إليه..
مشبب دائماً ملتزم الصم حتى لا يترك للآخرين فرصة السخرية على طريقة نطقه للكلمات أمام الأشخاص الذين يرتاح للحديث معهم إلا في أضيق الحدود وأعسر المواقف فمشكلته الوحيدة في الحياة فقط تمكن في اولئك المزعجين له والمثبطين لعزيمته والمستهزئين بشخصه..
وهناك حالات عديدة لمشاجرات حدثت لمشبب مع آخرين تطاولوا عليه وحاولوا الانتقاص منه والتقليل من ثقته في نفسه بالسخرية إما باللفظ إو باليد وانتهت على مشادات مشهودة من جميع السكان وإذا كان الطرف الآخر من السكان القريبين من حارة المظلوم التي يقطنها مشبب فكثيراً ما يلجأ هؤلاء إلى من يتعهد بمهمة الصلح وإنهاء ازمته مع مشبب التي لن تنتهي على حال طيب لأن مشبب سينال منه لا محالة في المستقبل القريب وكثير منهم لا يدركون ذلك إلا بعد أن يشهدوا نظرات الانتقام ترعد في عين مشبب فيسكنهم الخوف من انتقامه ولا مجال هنا بغير المصلحين لتأليف القلوب وإنهاء الأمر بأقل الخسائر..
وهنا مشبب شخص أصيل بما أبدته الموقف وأثبتته الحوادث فهو لا يطلب أي مقابل ولا عطاءات مالية ولا أي نوع من التعويضات ولا أي مبالغات كتقبيل رأسه والمبالغة في طلب عفوه والاستسماح منه .. لكن المشكلة الحقيقة تكمن في كيفية وصول الرسالة إلى مشبب بنية الطرف الآخر الحقيقية والصادقة في طلب مصافحته وسماحه وكيف يتيقن في رغبة خصومته في تجاوز حالة الغضب والخصومة لأنه بطبيعة شخصيته الحدية وبناءً على ما تعرّض له من مواقف يتوجس من الأشخاص المستهزئين والمستهترين به ولا يثق البتة في رجولتهم وفي صدف نواياهم فإذا واجه أحدهم وجهاً لوجه فستكون لغة الانتقام هي المسيطرة والغالبة على سلوك وتفكير مشبب حيث الخطورة لا حدود لها .. لذلك يستوجب على خصومه أن لا يظهروا أبداً على خريطة مشبب وفي مواطن تواجده حتى لا تقع المصيبة التي لا يحمد عواقبها فلغة المفاهمة ليست في قاموسه ولا يعرف لها طريقاً وهي وسيلة مفقودة كفقدانه لسمعه وقدرته على الكلام بطلاقة ..
من هنا فإن على خصومه البحث عن مخرج حفاظاً على حياتهم بالبحث عن مصلحين مقربين منه حتى يبلغوه بالرسالة الصحيحة لما يجول في نفوسهم وعندها يكون مشبب غاية في التسامح فقد زال حينها ما في نفسه من شر وغيظ .. وسيكتشفون أن مشبب أقرب ما يكون لحمامة سلام ويتقبل الامر برحابة صدر لا نظير لها ولا مشابه لسعتها وينتهي الأمر بعد العداوة الى محبة وسلام لو تطورت العلاقة بينهم.. فقط مشبب يحتاج الى من يثق ليؤكد رغبة عدوه في الاعتذار منه وسينتهي الامر بأريحية تامة ..
هناك قلة قليلة ممن يعرفون مشبب يدركون أن شخصية مشبب لم تولد بها كل تلك الشراسة من فراغ ولا من تلقاء الإصابة بعدم القدرة على الكلام والضعف الشديد في قدرته على السمع فهو شخصية ودودة وطيبة مع من يعرفه جيداً ويقترب منه ..
فقد أتى مشبب من خارج أسوار مدينة جدة حيث منبته في مدينة طرفيه قرب ساحل البحر الأحمر وقدم إلى جده شاباً منهزماً ومنكسراً لا يقوى على فعل شيء وقادته الظروف إلى العمل في قراش السيارات حيث سكنه إلى جانبها لا يتحرك إلا في محيط مساحة محدودة كأنه قد وضع سياجاً صلباً لا يقوى أحداً على كسر قيوده المعقدة .. وقصته لم يستطع البوح بها بما يشاء من سعة فصعوبة النطق عنده لا تترك إلا لمات مشحونة وبرموز تحمل في داخلها الكثير من الاستفهامات والأسئلة
وقد حكاها لي أقرب مقربيه بأنه كان على علاقة حب غرامية بقريبة له في قريته التي أتى منها وكانت العلاقة بينهم قد وصلت الى عشق من متيّم إما أن ينتهي بارتباط واقتران تحت سقف واحد أو تنهي حياتهما إلى الأبد فقيمة الحياة لا تساوي شيئاً دون ذلك ، وقد حاول سنوات عديدة يقاوم رفض والدها بسبب بشرته السمراء وصعوبة النطق لديه إلا أن ذلك لم يوصله إلا إلى مزيداً من التعقيدات جعلته يفقد طعم الحياة بكل ما فيها من فضاء وسعة وملذات .. وقد حدث موقف قرر بعدها مغادرة مدينته بيشه إلى لغير رجعة فعسى أن تجمعه الظروف بحبيبته التائهة من بعد رحيله إلى الأبد .. فقد وصلت المشاجرة مع والدها الذي حال بينه وبينها وفرق بين قلبيهما ووقف حجر عثر في طريق بناء بيت المستقبل مع من طاب لها القلب ومال ..فقد فشلت كل محاولات مشبب ومن معه في بذل وتلبية مطالب والدها مهما بلغت وتجاوزت سقف امكاناته ، حتى خرج مشبب عن طور انفعالاته وتعارك معه بالأيدي بعدما تيقن مشبب من أنه أمام أعظم خيبة في تاريخه ، فقد فشل في مشروع ارتباطه مع عشيقته وأن اطرق باتت أمامه مسدودة مهما قدم الأعطيات وبشّر بالوعود وسدد بالإملاءات ومعهما سعى لتوسيط الوسطاء وتزكية المزكين فالنتيجة واحدة مهما اختلف المحاولات وكثرت وتعددت بأساليب وضغوط وتزكيات فقد انتهى الأمر بعركة بالأيدي جذرت المشكلة بين والدها وقضى بها على أي أمل قد يسعى به إلى الاقتان بحبيبته ورفيقة دربه
وهرب من بيشه بلا نية للعودة إليها أبداً مهما كان فيها من توفر ظروف تضمن له مسكناً او مأكلا ومشرباً وحياة كريمة مع اهله وذويه فأدار ظهره للكل هناك ، فقد انتهت علاقته بيشه بعدما انقطع أمله ورجاءه في وصال من يحب ويعشق إلى حد التيه ، وما أسوءها من ظروف لمن في مثل حالته لأنه رحيله لن يترك له بصيصاً من الأمل لانفراج أزمته العاطفية فقد أشغله التفكير والهموم حتى بات كالهرم الذي تسكنه الخيبات واللعنات فقد أقفلت أمام جميع الدروب ولم يترك له أحداً من أقاربه فرصة التدخل من جديد حتى أن المحاولات القليلة كانت تنتهي بعض باستياء المتوسطين والمزكين من موقف الرفض حتى لا يعود لذلك مشبب
وكانوا ينصحونه بالاقتران من أخرى ويوجهون له تراتيل النصائح والتوجيهات ولكن لا أسف او عزاء بعد ضياع حلمه وفقدان أمله ..