ليس بالضرورة أن يكون النجوم من أصحاب المنجزات ومن يعلو كعبهم في الحارة القديمة بنفوذ المال أو وسلطان المنصب والجاه ..
فالقصص في حياة عامة الناس لا تتكأ في شيوعها على دخلاء ولا تتوسد في ذيوعها وانتشارها على وساطات ولا تنال المساحات الرحبة وتكتسب صفة الديمومة في سرود حكايات العامة لأي مؤثرات وضغوطات من أي نوع لأنها لو اعتمدت على شيء مما سبق فسوف قبل ولادتها كحال الجنين الذي سقط مجبراً قبل أن يرى النور في هذه الحياة فمن رحم أمه إلى المقبرة مباشرة ..
وفي الحكايات الشعبية أبطال ينافسون الملوك والوجهاء وأصحاب الثروات الطائلة فقد يفوز الفقراء والمسحوقين بنصيب الأسد من هذه الأدوار البطولية ولا ينافسهم في ذلك أصحاب الجاه والسلطان والمال ، وربما تكون القسمة في نفوذ الشهرة تمثل حالة من العدالة المطلقة ، فهنا تحديداً ليس للملوك شراء الأصوات ما مكنهم في ذلك ملكهم في حياتهم ، بينما أبطال القصص من الفقراء والبلهاء والدراويش ينالون الشهرة في حياتهم وبعد رحليهم بلا ثمن يقدمونه ..
فالأمر في أدوار البطولة لا يتوقف عند الفقراء والغلابة والمسحوقين بل أن السذج والدراويش والبلهاء والمجانين أحياناً يكون لهم موقف في الصفوف الأمامية وموقعاً في المقاعد المتقدمة فتعيش حكاياهم بعد رحليهم لأجيال بعيدة ويتناقل الناس ما جال وصال في تفاصيل حياتهم بينما يرحل الملوك والسلاطين وأصحاب دولة المال والجاه ولا يجدون من يأتي على ذكرهم العابر إلا مروراً عابراً وخفيفاً ..
ففي قصصهم الغلابة والسذج والبلهاء ما يثير ابتسامات الناس ويخفف كثيراً من ضغوطاتهم اليومية وهمومهم ومتاعبهم في مكابدة ظروف الحياة ومشقاتها ..
ومن هؤلاء الأبطال وأقصد أبطال القصص الفكاهية والضاحكة في حياة الناس شخصية يحكم عليها الجميع بالجنون ويدعى ( محي ) ولا يكاد يذكر محي إلا وتنهال القصص عن أفعاله وغرائب تصرفاته فهو أبن الأغنياء كما تزعم الحكايات التي تدور على ألسنة الناس وله في ذلك مغامرات لا تستدعي من القاص أو الراوي مزيداً من المبالغة لجذب الأنظار وآذان المنصتين فالجميع يراهن على أن محي المعتوه يفعل ما هو أكثر مما يقال عنه من حكايات ..
فمحي هو صديق الحيوانات في الحارات القديمة تعرفه قطط الشوارع والكلاب الضالة والقردة التي تلازم سيره في الطرقات كما يعرفه الناس ، حتى أن هذه الحيوانات تشتم رائحته قبل مروره فتهرع لاستقباله في مراسم احتفالية يومية من نوع خاص لا يعرفها البشر.. ويدرك الناس ذلك في مشهد تتحرك في الكلاب الضالة في برحات وأزقة المدينة نحو محي المجنون تتبعه وكأنه راعياً لها وتطيعه وكأنه مدرباً محترفاً يعرف أمزجتها وأحوالها وغالبا ما تلحظ محي وفي يده طعاماً للكلاب والقطط .. فهو يهوى اطعامها ومداعبتها واللعب معها في صورة تعكس للرائي أنها قد تفقد السيطرة على ذاتها لو أضر أحدا بهذه الشخصية وتكون مدافعة عنه ، الصورة كانت تعطي انطباعاً مختلفاً بأنه هو من يحرسها وليس للعكس ، لأن الكلاب تكون في حالها تحت الشمس ولكن حينما يظهر محي تتحرك نحوه وتسير خلفه كالحيتان تتبع السفن المتحركة في عرض البحر على يقين أن ما تلقيه من فضلات يحوي طعامها المشبع الذي لا يكلّف سوى السير خلفها وتتبع مجال سيرها عبر البحار ..
يقول الناس عن محي أنه ابن الأثرياء الذي يملك الملايين جاء إلى الدنيا بهذا الخلل في عقله وقد أنفق ذويه أموالاً لا تحصى لعلاجه وتحسين حالته ولا لا جدوى ولو أنفقوا عليه كل تجارتهم وثروتهم ، فهو عند النظر إليه لا يحتاج الأمر إلى طبيب أو خبير للكشف عن حالته ومصابه بالخلل العقلي ، فمهما خرج من منزله مقيّفاً نظيف الملابس على أحسن حال وعلى هيئة الملوك فلن تجده يمكث سويعات أو أقل إلا قد قلب حاله من فرط ابتلاء ملابسه بالاتساخ المقزز ، فهو صديق الكلاب والقطط فربما يهدي ملابسه وأرديته كلاب الشوارع كما أن الصبية والمستهترين سينالون من منه فكانوا يتلذذون بأذيته والسخرية منه ويستمتع بعضهم الآخر بإيقاعه في المواقف والقالب فينصبون له الفخاخ والمكائد ليقع فيها بدافع بساطته وسذاجته وكلما طلبوه لأمر ما استجاب باندفاع متناسياً ما بدر منهم ويقع في خيبة ظنه الحسن بهم لانجرافه لحيلهم ، ولا يجد محي في كل مرة يصدقهم ويحسن ظنه بهم غير مزيداً من الهزائم والخيبات فمرات يقذفونه ببقايا الطعام وأخرى لا يستفيق بنفسه غير ملقياً على الأرض من أثر مقلب سخيف من مستهتر وعابث به لا يتأخر عن نسج المصائد لإيقاعه في المواقف والمقالب ليضحك الآخرين المحتشدين لنتيجة الموقف ولا يجد بعض المستهترين أنفع من محي ليخيطون عليه مكائدهم ومقالبهم من أجل تسليتهم ومتعتهم المؤلمة لمحي ..
يقال فيما بين الناس أن أسرته الغنية حاولت ذات مره أن تصحبه في رحلة صيفية لخارج البلاد وقطعوا له تذاكر السفر واشتروا له الملابس الجديدة وما يستلزم من احتياجات السفر ولكنه عند صعوده لسلم الطائرة مال برقبته إلى الخلف ينظر إلى الفضاء ويلقي نظرة أخيرة إلى سماء جدة وأرضها وبيوتها وحاراتها فوجد ما وجد من مشهد غير تفكيره وموقفه من حال إلى حال آخر وانتفض أمام أهله وجميع ومرافقيه في الطائرة وهو يصيح مطالباً اعادته إلى المدينة فقد شاهد وهو يلقي النظرة الأخيرة لأجواء المدينة مجموعة من الكلاب التي كانت تتبعه إلى حدود المطار القديم فهم على عجل للتوجه إليهم واللهو معهم وإطعامهم ، ولم تنجح محاولات الأسرة لثنيه عن موقفه وإقناعه برحلة السفر فالطائرة لها موعد للإقلاع لا يتحمل التأخير وجميعهم على أبواب الطائرة وفي سلم الصعود المعتاد متأهبون للسفر ، لكن محي صاح عليهم وصرخ بكل ما مكنه صوته من استنكار الموقف ورفض الحالة التي هو عليها والكلاب تنتظره بينهم فلم تكن هناك قوة تمنعه عن موقفه .. فقرر العودة دون أن يثنيه عن قراره أحداً .. مهما كانت الوعود والمغريات بكلاب أنظف وأجمل في الخارج وبحيوانات أكثر ألفة ووداعة ولطفاً ، وسبب لهم أيما حرج في موقف عصيب أجبر ذويه على إلغاء مشروع السفر للخارج وكان ذلك من غير الممكن لولا ما مفاجأة موقف محي وهو ابنهم في نهاية الأمر ولا يملكون غير النزول لرغبته وتلبية مطلبه ..
وعاد محي إلى أصحابه وأصدقائه ورفقاء دربه الحقيقيين من الكلاب والقطط والقردة دون أن يلقي حساباً لأحد .. كان محي لا يلتفت إلى إيذاء المستهترين والصبية ، فهو قد افتقدوا الإنسانية التي يتمتع بها محي فقد أسعد بعطائه الحيوانات التي لا يلتفت لها أحد بينما تصرفاتهم قد افتقدت معالم الإنسانية فما كان يتعرض إليه من ضرب وايذاء وتحقير وهو لا يمانع من تكرار إساءتهم المتكررة عله يلتمس منهم ولو لمرة واحدة فقط حالة إنسانية كالتي يستشعرها مع الحيوانات القريبة منه ، فهم يمارسون متعة مسلوبة الشعور وفاقدة الإحساس بإنسانية محي المغلوب على أمره فيكون في كل مرة مضطراً لتصديق ما يقولوه وسرعان ما يقع فريسةً لمتعتهم الساقطة ورغبتهم في الاستهتار به وبكل إنسان مصاب بحالة مشابهة لحالته .. لا شيء يهم محي طالما أنه محاطاً بالحيوانات التي تحتفظ له بالود وتحيطه بنبل المشاعر التي يفتقدها كثير من البشر ..