مخابرات عائلية من نوع خاص

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: موقع المؤلف

وفد إلينا من البادية .. تبدو عليه مظاهر الشموخ في تعامله وسلوكه الشخصي .. مترفع دوما عن انزلاقات الأخطاء وزلات الوقوع فيما يغضب الآخرين ويزعجهم متفاديا برفق كل ما قد تسفر عنه علاقات الزمالة الجامعية من أسباب قد تثير دواعي غيرة متوقعة  ومنافسة محمومة بين  البعض ..

كنت انظر إليه على انه نموذج ملائكي لا يمكن لمن يلتصق به في علاقة يومية أن يرفع عليه عريضة احتجاج عن أي خلل ينتج عنه أو سوء تقدير أو تصرف قد يصدر منه ومع انقطاعي عن علاقته لأكثر من عشرين عاما لم تنقطع عني أمنية أن التقي به أو تهديني الظروف للتوصل معه وانبش مكنونات سر دفين كان قد مات بيننا في أجنحة وقاعات  قسم الإعلام بالجامعة .. 

غريبا إلى حد الهوس في بعض تصرفاته ، مظاهر الوسوسة لا تفارق تصرفاته في وقت ما .. كأن شخصا ما يطارده أو حالة ثأر قبلي يهدد تحركاته المريبة  .. فهو معتاد بأن يقطع عهدا مع زملائه المقربين وصداقاته المحدودة كلما اتسع دائرة نطاقها بحفظ ماء سره من التبخر وان يفشي احدا  وكان يشعر بالراحة كلما رددنا على أذنيه : سرك في بير  فلن يستبيحه  لأحد مهما اقرب منه وحاول كسر حواجز الصمت في نفسه .

 لم يكن سر دفين في تقديرنا إلا بعد ما أوقعنا هو في هاجس ظنون وملتقى شكوك تلاحقه أينما يسير ويذهب فمن يفشي سراً انه طالب ملتحق لدراسة الإعلام وفي مسار الإذاعة والتلفزيون على وجه التحديد فسوف يدمر بدون ادني شك كل طموح ينبض بداخله لهذا التخصص الفريد في مجال اختياراته ، ولا يمكن أن يكمل دراسته في غير هذا التخصص فهو عاشق مفتون لهذا النوع من الدراسة ولا يتأخر في دفع أي فاتورة باهظة الثمن أو ضريبة مشقية الكلفة تمكنه في تحقيق طموحه المجنون ..

كنت اعتقد انه نوع من الهوس المضطرب الذي يجعلنا نشعر انه مطارد من رجال المباحث وفرق مكافحة من الانتربول الدولي للكشف عن أثار جريمته لأنه طالب في قسم الإعلام ويدرس التلفزيون لأنه ليس كحالنا من طلاب قسم الإعلام لا نملك عشقه ورغبته وطموحه المستغرب إلى درجة الهوس والجنون لكن الأمر مختلف عما نتصور تماما وبعيد كل البعد عم ما ذهبنا إليه وبه حقيقة مره لا يعلمها غيره ولا يعاني ألمها سواه..

سألته ذات مره عن حالة الهم التي تطارد ملامح وجهه حتى غدت تجاعيد الكبر تسكن سحناته وهو في مرحلة الشباب فاستباح لغز كان يدور بين أوساط  زملائه عن الكذبة المستغربة التي أطلقها في بداية معرفتنا به انه من طلاب قسم الشريعة وجمعته معنا في فصل واحد مواد يرغب دراستها في مجال الإعلام ثم ألحقها بكذبة أخرى يحضر مواد الإعلام من باب الاستماع والاستزادة بالمعلومات القيمة في وقت فراغه وهي ساعات مهملة في برنامجه اليومي يمضيها في حقل دراستنا الشيق بالنسبة لاختياراته وإشغال وقت فراغه لكن سركان ما انكشف أمره وزالت حيله بعدما تأكد الجميع من الجميع من وجود في جميع الكشوفات الدراسية وبيانات تسجيل الطلاب وفي ورود درجاته المرتفعة كأحد الطلاب المجتهدين فلم تعد لديه حيل أخرى غير اخذ التعهدات علينا بعدم كشف أمره لأي كائن من كان يسأل عن شخصية ويبحث في شأن دراسته كمن يسأل عن عريس يتقدم لخطبة فتاة لا يعرف ذويها أية معلومات عنه وعن سيرة حياته .

لكنه وبمجرد ذكر الأسباب زالت على الفور جميع دواعي العجب وحالات الاستغراب ..

بل أصبح على الطرف النقيض نحفظ السر في أعماق أحشاءنا ولن يصل إلى جوهر حقيقتها أي باحث أو متطفل أو مندس لديه أغراضه الخاصة ومثالبه البغيضة لنشر تفاصيل جريته بالالتحاق بدراسة التلفزيون المحرمة شرعا ودينا عند عائلته ووالدته تحديدا ..

وذهلت كمن سقطت على رأسه صاعقة من السماء لما سرده إلي تفاصيل ومبررات وأسباب تفرض عليه اخذ التعهد من زملائه و:انه مصا بهوس ملاحقة رجال المخابرات لشخصه وهي في مجتمع بعيد عن مجتمعه لا يعرفه فيه احد غير هؤلاء الزملاء المدهوشون بحالة الهوس والهاجس المضطرب الذي يضعه في نظر الجميع وتفسريهم في مقارنات المرضى النفسيين الذي أحاط به وهم الفصام فينظر له من حوله بإشفاق لعزلة تفكيره وهواجسه المريضة .

 وبدأ يسرد لي تفاصيل الهموم في حياته بسبب عشقه الأبدي لمهنة الإعلام والذي كلفة ثمنا غاليا وقيمة باهظة ذهبت بثلاثة سنوات من حياته في طي النسيان فقد التحق بجامعة الملك سعود بالرياض وكان من طلابها النجباء على حد وصفه فيذكره المحاضرين على انه نموذج  فريد لحالة الإصرار على المعرفة والرغبة الملحة للاطلاع والمتابعة لأسرار الإعلام وتفاصيل وأسرار مهنته المثيرة له إلى حد العشق الجنوني لكن حالة العاشق في مدينة الرياض لطالب الإعلام انتهت بمأساة مؤملة ومدوية لمن في مثل حالته وعشقه فقد اضطر رغما عن أنفه وفوق حدود طاقته واحتماله فترك معشوقته بعيدا وامتنع طوعا وبكامل طاقاته الذهنية والعقلية ترك تلك الجامعة في ظرف مأساوي صعب كعملية فصل توأمين سياميين قد يؤدي أي خطأ طبي رحيل احدهم عن الحياة لكن الضرورة اقتضت ذلك .

لم يفقد الأمل من الوهلة الأولى فأجرى جميع المحاولات واستنفذ جميع السبل والطرق لثنيها عن إرادتها الصارمة ، استعان بالعقلاء من أقاربه وجماعته فما كان لها إلا تسليط نظرات اللوم على قبح فعلته وبشاعة صنيعة فوضع في خانة المجاهر على معصية لا يتردد في الدفاع عنها واستباحة رغبة الاستمرار في علاقتها ولم يتوقف الحال عند والدته العجوز الموجهة ببوصلة الحقن الفكرية دون إمعان وتدبر واستماع لمنط فاخر مختلف .. إنما كان نظرات من بعض أقربائه ترمقه على سوء فعلته التي تخرجه بجرمها من عقوق الأم إلى غضب ربه ففقد دينه ودنياه وهم قلة من جماعته على شاكلة ونمط تفكير والدته .

  هكذا كان حاله فقد نكأ على جراحه ولملم أغراضه ورحل عن الرياض إلى جدة فأرضى والدته التي نذرت يمينا قطعيا على نفسها بأنها ستعتبر ابنها المغلوب في حكم الأموات إذا لم يترك دراسة التفلزيون المحرمة وعملها المشبوه مستقبلا ورزقه المفسد على المجتمع والدين وحياة الناس .. فلا رحمة ستعقب نهايته من حياتها ولا دعاء ستنطقه لطل الغفران له وسيحل مكان الحب في قلبها إلى غضب متأصل لن يمكنها من تذكر أي خير فعله خدمة قدمها يذكر بها خيرا فهو شيطان بغيض ينشر الفساد ويحث على الشر ويدل عليه ..

وإذا قبل بشروط مفاوضتها واستمع إلى نداءاتها واجبة التنفيذ دون قيد أو شرط  وحقق مطالبها فيما تريده أن يكون صالحا وليس من المفسدين ينشر الخير للناس ولا يبث المعاشر ويدعو إلى الآثام فيرك التلفزيون ودراسته التي تؤدي إلى الفجور والعصيان ويتوجه إلى دراسة الشريعة والدين فيتحول حاله من مفسد إلى مصلح ومن ناثر للمعاصي والآثام إلى داعي للصلاح وباعث إلى هداية الناس ورشدهم ودليل صلاحهم هذا ما أرادته دون مفاوضات ولا مداولات تسمح بتمرير أي وجهة نظر تتدخل للتوضيح وحسين أي صورة سوداء في مخيلتها وطريقة تفكيرها .

وكان اتفاقها مشروطا بترك الإعلام على الفور والالتحاق بقسم الشريعة حتى لا يلحقه غضبها ويصيبه قطيعتها مدى الحياة فلا تراه ولا يرها واعتبر بذلك ميتا لا جسد له ولا روح في حياتها بعدما اختار طريق الفساد وأهل الشر والتبرج والفسوق.

ولم يكن منه إلا أن استجاب لمطلبها ورضخ لضغطها الشديد وخضع لقرارها وحقق لها غايتها فيما تريده أن يكون في مجال دراسته وطبيعة ومجال طلب رزقه في المستقبل فحصل على رضاها ونال برها ومبتغاها .

لكن الحال لم يستقيم مع العاشق قي علاقته بمعشوقته فمطلب والدته كان صعبا ومستحيلا عليه وليس بمقدوره أن يكون خراج سرب العمل التلفزيوني مهما كلف الأمر من صبر واحتمال .

 فإما ينتظر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا  انقضاء نحبها والدته المسنة وبلوغ اجلها  فتنفرج أمور حياته ويتيسر بلوغ إرادته بدراسة الإعلام من جديد دون النظر للخلف فما كان قد ذهب أدراج الرياح وهو ابن اللحظة التي يعيشها فيواصل مسيرته فيما يحب ويعشق ويحقق مبتغاه وطموح حياته الذي لا يقبل القسمة على اثنين فإما يكون شيئا في حياته ونجما في سماء مجتمعه أو لا يكون فيعود مسحوقا ينتظر وظيفة محدودة الراتب ومحدودة الأجل ومؤطرة الطموح فلا أسف بعدها ولا طموح يفيد .

لكن إصراره لم يمهله كثيرا ولم يتركه في شأنه أسير حالات التشتت الذهني وخيبة الطموح وصراع الطموح داخلة في أن يكون أو لا يكون كان ذلك أقوى من ارتباطه بوثيقة عهد مع والدته فذهب إلى أهل الخبرة ورجال الدين والمستشارين وذوي الرأي والحكمة واللب يعرض عليهم شكواه ويفضي إليهم بحالته وهمومه وطموحه بعدما عبث بها تسلط والدته وإصرارها وتعنت رأيها حتى أضاع ثلاثة سنوات درسها في الرياض انتهت علاقته بها منسحبا في انتظامه بها ومهزوما بطموحه وحاله عشقه للإعلام ودراسته .وان كل المساعي التي سلطها لإقناعها باءت بالفشل الذريع وعادت بتنديد مريع بفقدان البر وتلويحات صريحة بشن موجات الغضب التي ستعلنها والدته إذا واصل رغبته واستمر في إصراره فإما تكون شيطانة خرساء إذا صمتت عن خطأ ولدها أو يكون هو الابن العاق الذي يستحق الغضب والنكران .

 الوضع استمر إلى أن ألقى احد المفربين منه رأيا كان مريحا له إلى حد الاطمئنان فقد استنكر رأي والدته العنيد والمتسلط وشكر له بره وخضوعه ومحبته لها إلى حد جعله يضحي بدراسته وبسنوات أهدرها لبلوغ برها ونصحه أن يلتحق بالدراسة التي يحب في جامعة أخرى لا تعرف والدته فيها أحدا ولا تصل من خلالها إلى طريقا ويبشرها بأنه حقق رغبتها بدراسة الشريعة لإرضاء تعنت رأيها وطبيعة تشددها بمن وجهها إلى صوب تحريم هذا العلم النافع ومن وجه بوصلة تفكيرها إلى نحو مقاطقة ابنها البكر لأنه لم يوافق تشدد رأيها وعدم موافقتها لتعدد الآراء وقبولها لمبدأ استماع وجهات نظر المداخلين والمتوسطين وقطع الحكم الصارم أن ابنها من المفسدين لان خرج عن رأيها ومن تبعت فكرهم إلى يوم الدين.

 

قال له هل أدلك على طريق إن سلكته بصق وإخلاص وأمانة ونزاهة  كنت لدينك ومجتمعك ووطنك من انفع جنوده وحماته أن تدرس الإعلام وتكون حامل راية النور فيه فلا تثنيك مصلحة ولا تبعدك منافع ولا تغير قناعاتك أهواء ومكاسب .. ترى طريق الأموال فتكون ظاهر للحق ولا تجانب طريق الصواب .. وتمر من طريق النفوذ والمصالح فتضع نزاهتك قيد نظرك ولا تحيد عنها قيد أنملة ..

 لا تتراجع إلى الخلف إلا إذا وجدت الخطأ فكان رجوعك عنه من الفضائل وكان ذلك خيرا لك ..وتكون مع الناس لا مع السلطان ولا تغري بهذا الدراهم والدنانير فتنجوا وينجوا مجتمعك بفضيلة عملك وحسن صنيعك لأنك في حقل تصلح به الأخطاء وتعالج بدوره العثرات وتكشف من خلاله أوجه السوء ومكامن الفساد وتنمي فيه كل فعل صائب وتشكر بصدق كل انجاز أصيل وعمل ناجح مفيد .. 

ولا عليك من نظرات البسطاء المتلحفين بعباءة الجهل ورداء التوجيه الخاطئ والأفكار الملتفة بعقد المشددين وإصرار المتعنتين ممن قادوا المجتمع إلى هاوية الانفجار ولهجات التكفير ونبرات العنف في اللفظ والفعل .. فأنت في طريق فيه بوادر الخير ومسالك العطاء الفريد الصالح و به تواجه مع غيرك من الخيرين النافعين المصلحين دروب الجهل والانحراف التي تهدر في سماء الإعلام بالإنتاج المضلل والخارج عن عرف المجتمع وعاداته الأصيلة وقيمه الإسلامية العظيمة .. 

 

حمدنا الله جميعا ونحن نستمع منفردين ومجتمعين لمشكلته التي ترسم ملامح وجهه الشاحب والعاشق في أن واحد والذي كان دائما ما يجد الرياح تقف عثرة في طريق بلوغه أمنياته وطموحاته لكنه لا يبالي بما هو منتظر ومحتمل لإرضاء حالة الإصرار داخله وأدركنا بلا حالة استثناء أن أي منا مجرد دارسين مدعين لما نحن عليه من علاقة بمجالات حياتنا وهو الصادق والجدير بيننا فالساعات تمضي في حياتنا كعقارب الساعة تتحرك وتدور في محيطها المستدير ولكن تدور ببطء قاتل ومميت في حياته خشية أن يتورط أحدا بإبلاغ والدته بحقيقة كذبه عليها بدراسة التلفزيون فيكون من المفسدين ويهوج عليه غضبا على غضب وينبري معه كل ماضي ارتبط بذكراه لأنه أصبح من الممقوتين فتجوز عليهم اللعنة ويبوؤوا بغضب موعود لا طائل له .. وإذا هدأ وتناسى الأمر وأدار فكره للمستقبل الذي ينتظره والطموح الذي يلوح باعتلاء أمواجه العاتية مضى الوقت سريعا كلمح البصر كلحظات التقاء عاشق بعشيقة حياته .. 

Back