قائد الحمار الخشبي2 !!

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر:

هو سر تاريخي لا يعرفه غير السقا و بهذا السر يستطيع السقا أن يحفظ البقاء للمدينة ، و يجعلها قادرة على التنفس على شاطئ البحر الأحمر ، في أزمة خانقة ، و طاحنة ، لا تقوى مدينة في أي موقع في الأرض أن تجاري ويلاتها و كرباتها ، خاصة و أن جدة تعاني من صيف حارق ، تسقط أشعة الشمس فيه مباشرةً على رؤوس السكان ، فلا غيوم تحجبها و لا أمطار تخفف من لهيبها ، إلا ما ندر ، و النادر لا حكم له بطبيعة الحل .

فالسقا يشم رائحة الماء ، ببحثه الدائم عن مصادرها ، و أماكن تواجدها ، و هو عمله المهم في حياة الناس ، يجعل له تواجداً بارزاً في اهتماماتهم مع تزايد الطلب على (( زفات )) المياه ، في مدينة لها تواجد عالمي ، في جانبين لا يقل إحداهما عن الآخر من حيث الأهمية و الأثر ، فمدينة جدة هي المدخل الرئيسي للحرمين الشريفين ، البقاع المقدسة التي يقصدها الحجاج و المعتمرون من أقطار المعمورة عبر الميناء البحري التاريخي التي جعل لها أهمية اقتصادية و تجارية و فتح لمستقبلها أفق النجاح من أوسع أبواب النجاح و التطور و النمو . 

و أول مصدر كما يذكر السقا (( احمدو )) من مصادر المياه العذبة ، هو (( الكنداسة )) و الكنداسة هي أول حل مؤقت لأزمة المياه ، كانت لا تكفي لسد حاجة نصف السكان من المياه العذبة ، فمياهها للشرب و لشرب الشاي و القهوة و أغراض الطهر فقط ، الحاجة للمياه لا تسمح للإسراف أو اللامبالاة في التعامل مع قطرات هذه المياه الغالية سعراً و حاجة ماسة. 

و سعر الزفة منا بثلاثة قروش ، و الزفة تعادل (( تنكتين ماء )) ، و من شدة حرص الأسر على مياه الكنداسة النظيفة ، كانوا يمنعون الأطفال من الاقتراب منها أو العبث بها ، و الشرب منها على قدر الحاجة . 

و هذه الكنداسة هي محطة لتحلية مياه البحر الأحمر بواسطة الفحم الحجري ، أحضرها العثمانيون من أوربا أتناء حكمهم للمنطقة عام 1324هـ أي قبل خمسة و تسعين عاماً ، فمدينة جدة عرفت تحلية مياه البحر الأحمر منذ ذلك العهد القديم لحاجة الناس و حاجة المدينة و زوارها للماء ، و هذا ما جعل بعض الرحالة يبررون عدم و جود أشجار كبيرة و كثيفة في المدينة الى أزمة المياه الطاحنة التي شغلت الناس و أرهقتهم ، و حتى أن عمليات بناء البيوت تستغرق فترات طويلة ، نظراً لحاجة عمليات البناء الى الماء بكثافة . 

(( الكنداسة )) كانت تشهد زحاماً يومياً شديداً ، و صراعاً في طوابيرها ، التي لها أول و ليس لها آخر تبدأ الطوابير في التراصف من بعد صلاة الفجر و حتى أذان صلاة العصر للحصول على زفات المياه العذبة ، التي تضمن لرب الأسرة في ليلته تلك عدم طلب الماء من جار أو صديق .

و كانت طوابير الكنداسة تشهد عراكاً دامياً في بعض الأحيان ، لكنها في معظم الأحيان تشهد لقاءات حميمة بين السكان .

و يتبادلون الأحاديث و الاخبار و الحكايات فيذوب هم الطابور الطويل ، و أزمة المياه المهلكة أمام هموم الحياة و متطلباتها و طموحاتها و أحلامها .. و ينصهر الجميع في جو من الود و التسامح ، فالهم واحد و المصير واحد ، و الرب واحد .

و قد عبر محمد عتيبي أحد أدباء جدة بظرافة و خفة ظل عن معاناة هذه الأزمة في أبيات شعرية فكاهية من نظمه و إبداعه :

يا ذوي الرأي و الكياسة 

               خلصونا من دوشة الكنداسة 

كلكم تأخذون بالدس الماء 

               و يجينا البلاء من أجل كلاسة 

لو عطشتم كما عطشنا رقعتم 

               و هرجتم بشدة و حماسة 

رحمة بالفقير هو ضفيف 

               بهدل الفقير عقله و حواسه 

يشتري اليوم (( زفه )) بريال 

               بعد أن باع قشه و نحاسه 

أو يقول المأمور دون حياء :

               (( خلص الماء )) كسر الله راسه ! 

ويتحدث السقا عن المصدر الثاني الذي يبحث فيه عن المياه بعد مياه الكنداسة التي تستأثر باهتمام الناس و أنظارهم و سؤالهم المستمر ، و لكن الحاجة تدعوا الى سؤال أي مصدر آخر في هذه الأزمة و كل مصدر تظهر أهميته في أوقات الحاجة .

في مدينة جدة التي لا يتوقف عنها الزوار ، و هم زوار الرحاب المقدسة لا بد لهم من المرور على جدة و لصعوبة المواصلات و الوسائل فالسفر على ظهر الخيول أو الجمال يستغرق أياماً و ليالي ، فجدة تكون محطة استراحة لهم بعد سفر طويل على متن البحر .

و المصدر الثاني هو مياه الصهاريج ، جمع (( صهريج )) و هي خزانات للمياه تشيد لاستقبال مياه الأمطار في حالة سقوطها و إن كان يندر سقوطها و لكن الحاجة لا تبرر الاستغناء عن أي احتمال يشكل مصدراً طبيعياً للمياه . 

و إذا حدث و سقطت المياه فالاستعداد لها يعد أمرا حتمياً ، فالأغنياء و المقتدرون بصفة خاصة يشيدون الصهاريج أعلى منازلهم أو أسفلها لاستقبال مياه الأمطار و تخزينها للجوء إليها في أشد الأوقات تأزماً و إحراجاً .

و هو هم الغني ، مثلما هو هم ، الفقير و شغله الشاغل الذي يكد و يجمع نصيباً من حصيلته اليومية لشراء زفات المياه . و يتساوى الناس في هذا الهم .

فلا غني ولا فقير ، ولا كبير ولا صغير ، و ساعات الحاجة لمادة الحياة الأساسية جديرة بأن توحد المشاعر و تجمع الأغنياء و الفقراء في هم واحد و هاجس واحد ، هو البحث عن قطراتها ، فالفقير يعمل و يكد من أجل الحصول عليها ، و الغني يكتنز قطراتها لأوقات ندرتها و شحها ، و يتكاتف و يتساعد أفراد المجتمع لمقاومة هذه الازمة ، فالذي يبخل عن المساعدة اليوم ستجبره الظروف غذاً لطلب قطراتها و المصدر الثالث هو الماء (( الرديخ )) و هو ماء مالح ، لا يستخدم إلا لأغراض الغسيل و النظافة .

و كان الملك عبدالعزيز هو فارس مواجهة هذه الأزمة التي أوجعت و أهلكت سكان هذه المدينة عبر القرون التي عاشتها فمنذ أن عرف سكان و أهالي جدة شخصية الملك عبدالعزيز و هم يرون فيه فارسها و بطلها عبر التاريخ .

و كان لا بد من التفكير في أي حل مهما كان ، و بأي صوره مهما بلغت صعوبتها للخلاص من هذا الشقاء اليومي و المعاناة المستمرة ، و بعد أن انضمت مدينة جدة تحت لواء الملك عبدالعزيز فارس الجزيرة و موحد أرجائها و أشتاتها .

و اجتمع أعيان جدة و عمدها و تجارها ، و استغلوا وجود الملك في جدة ، و جسدوا له أزمة المياه في جدة ، و معاناة الناس في طوابير الكنداسة خلال حفل تاريخي أقامه السكان احتفالاً بوجود الملك عبدالعزيز .. و لمس الناس إنسانيته و لين جانبه ، و حبه لأهالي و سكان مدينة جدة .

و عاش الملك عبدالعزيز الإنسان مع ذلك المشهد و لمس من خلاله حقيقة العناء و الشقاء الذي يعيشه الناس في هم أزمة المياه .

فأمر فور انتهاء الحفل بإنشاء العين العزيزية على نفقته الخاصة ، تقدم المياه للسكان بالمجان فلا غني ولا فقير .

الكل يحصل على زفات المياه بالمجان ، و أخرج بذلك الملك المدينة من تاريخ طويل مع أزمة مهلكة أعاقت المدينة من التوسع و الامتداد ، داخل سور تاريخي يطوق حدود المدينة .

و كانت نهاية غير عادية ، لأزمة غير عادية ، في مدينة غير عادية ، و على يد رجل غير عادي ، بشهادة كل معمر عاش ذلك الزمان وذاق مرارة أزمته .

جريدة المدينة ملحق الأربعاء

4\6\1419

Back