قائد الحمار الخشبي .(1)!!

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: جريدة المدينة ملحق الأربعاء

 

((احمدو)) جار عليه الزمان ، وغدرت به الظروف بعد ان كان فارسا من فرسان جدة القديمة ، واحد اشهم فتواتها و رجالها . 

اصبح في يوم و ليلة يسير تائهاً في شوارعها و ازقتها و بين حواريها فاقداً هويته و أهميته و وجوده .. ليس له دور بين أبناء مدينته الصغيرة.. و دون عمل يرتزق منه و يسد حاجته و يشكل دخلا معيشيا له و لأسرته التي يزيد عدد افرادها عن السبعة أفراد بين بنين و بنات .

هذا هو نفسه احمدو الذي كان قبل أيام عديدة لا يجد وقتاً كافياً لتغطية طلبات عمله الملحة و المتزايدة و الإنسانية ، فهو السقا الذي يزف قطرات الى الأسر و الأهالي في مدينة تعيش هم أزمة المياه الهالكة .. و هي أزمة أزلية صاحبة جدة القديمة طوال عمرها المديد و تاريخها الطويل و اعاقتها من الحركة و التوسع و التمدد الجغرافي .

و السقا احمدو ه فارس هذه الأزمة الوحيد الذي لا يزال يصارع ظروف الحياة في هذه المدينة التي جمعت أحلام الأغنياء و الأثرياء بهموم و آلام الفقراء و الكادحين ، الكل يعيش ويلات العطش وهاجس شح المياه المزعج في جو إنساني و بروح الأسرة المتماسكة بمشاعر موحدة و أحزان و أفراح موحدة ، يتعاون الجميع على مكافحة أزمة المياه و التخفيف من ألمها و ضيقها ، فلا أحد لا يتوانى في تقديم المساعدة و الإسعاف العاجل لأي جار أو صديق بقطرات المياه التي كانت تساوي قطرات الذهب . 

ويصف احمدو هذه المدينة التي تنام على شاطئ البحر و تغتسل بأمواجه ، أنها عاشت فاقدة شريان الحياة و مادتها الأساسية ، فبحرها مالح أشد الملوحة .. غزى بملوحته أعماق أراضيها فأصابها بشح المياه و حكم عليها بهذه الأزمة التاريخية المهلكة ، و عاش الناس في ظل هذه الأزمة قريبين من بعضهم البعض بلا جسور ولا فوارق و لا حواجز ، الكل يطأطئ رأسه لتجاوز كرباتها . 

و كان دور احمدو السقا صاحب الحمار الخشبي هو إسعاف الناس بالمياه و زفها لهم بطريقته الخاصة في أشد الأوقات إحراجاً ، و إعلان قدومه للحارة أو رحيله عنها مرهون بمسيرة حماره الذي يصدر صوتاً مزعجاً ، كان هذا الصوت المزعج رغم إزعاجه يصور موسيقى فرح صاخبة على مسامع الناس لأنها تبشر بوصول المياه الى بيوتهم أو يعلن السقا هذا الصوت مغادرته الحارة فيوصيه من يوصي بزفات المياه . 

و حمار السقا يجر خلفه مقطورة خشبية تتدحرج على كفرات خشبية تسمى (( الكبس )) و هو وسيلة السقا السريعة لنقل المياه ، أو ينقل السقا زفات المياه على كتفيه بواسطة عصا تعلق بأطرافها تنكتا ماء ، فتجد السقا يركض بين الأزقة و الممرات لإيصال الماء الى البيوت دون أن تهتز زفات الماء أو تنقص إلا بحدٍ طفيف جداً مقابل قرش واحد فقط . 

و الذي يكدر خاطر احمدو الآن أنه بعد كل هذه الأهمية و المكانة و الطلب و الانشغال وجد نفسه في العراء دون عمل ، فقد أزيحت الغمة السوداء عن جدة و أزيلت عنها معاناة العطش الدائمة بعد أن أصبحت المياه تضخ لحنفيات البيوت بوفرة دائمة ، و احمدو لا يخفي سعادته بانقشاع هذا الهم عن الأهالي ، لكنه اكتشف أنه الخسران الوحيد في القضية بفقدانه عمله و وضعه و مكانته فأصبح الناس لا يعرفونه ولا يطرقون له باباً . 

جرب احمدو نفسه في أعمال يدوية و مهن عديدة ، لم يترك طريقاً أمامه للارتزاق إلا و سلكه ، فعمل سباكاً و بناء و حلاقاً و حمالاً و غيرها الى أن انتهى به الحال ليكون جزاراً في باب مكة . 

وتكاد ذكرياته تسيطر على أفكاره فهو دائماً في حالة تقشف مع المياه و يتعامل معها بحذر شديد خشية إقطاعها أو شحها ، فمصادره القديمة التي كان ينزح منها بوسائله التقليدية قد جفت ، إلا أنه لا زال يثق أنه ظل خبيراً في المياه يشم رائحتها من على بعد و في أي لحظة لوصولها أو انقطاعها .

يحكي لنا الجزاز احمدو – السقا سابقاً – حكاية السقاية في حارات جدة القديمة ، مهنة الأشقياء و التعساء ، كيف كانوا سعيدين وقت شقاء الناس و اصبحوا أشقياء و تعساء بسعادة الناس و رخائهم .

السقا دائماً يتصبب عرقاً في كل أوقات عمله ، فالعرق ممتزج برشات الماء المتطايرة من الزفات التي يحملها على كتفيه أو على عربة حماره الخشبية فهو دائماً منهك و ملامح التعب تسكن وجهه .. و لباسه يعبر عن ذلك فالعمه الشرقية و الثوب السليطي (( مرقع )) .. و حزامه أو (( بقشته )) مصنوعه من الخيش .. لباسه عموماً مهمل غير منظم لأن مهنته لا تسمح له بالأناقة و الشياكة فهو شعبي بكل ما تعنيه الكلمة في زمن الحياة الشعبية البسيطة .

و يحكي (( احمدو )) عن أصول مهنته :

جميع السقاية يحكمهم شيخهم ، شيخ السقاية يتم اختياره بانتخاب و ترشيح جميع السقاية ، لأنه كبيرهم الذي لا يلجؤون لغيره عند حل مشاكلهم و خلافاتهم و رعاية قضاياهم و تنظيم مسيرة عملهم ، و دائماً يحثهم على التعاون و التراضي و المساعدة حتى تستطيع المدينة أن تتغلب على هذه الكارثة الأزلية . 

و للسقاية محكمة مصغرة قاضيها هو شيخهم ، و في حالة حدوث نزاع بين السقاية يجتمعون لعقد جلسة لهذه المحكمة و عند إثبات الخطأ على أحد المتنازعين يحكم الشيخ ببطحه أرضاً و يضرب من جميع السقاية حتى لا يتكرر الخطأ المشين .. و من المعيب أن يكون سبب النزاع هو التسابق على زبون أو على سرقة زبون من زميله السقا ، لأن من عاداتهم التعاون و عدم النظر الى الربح ، لو كان ذلك على حساب إحراج زميل مهنته مهما كان الثمن . 

 

جريدة المدينة ملحق الأربعاء

4\6\1419

Back