قضى نحبه وظيفيا بطلب تقاعده المبكر بعد مضي خمس وعشرون عاما من عمره الوظيفي مفضلا ترجله سريعا عن صهوة جواد الوظيفة .
كان يعتقد بأنه بعد تقاعد سيعيش ملك نفسه لا أحد له حق في وقته ولا يأمر ونهى في شأنه كائناً من كان ، مقتنعاً بمرتب تقاعدي معقول يسد احتياجاته ويقضي به احتياجاته والتزاماته فيعيش حياة المرفهين بلا دوام صباحي ولا التزامات عملية ولا حضور وانصراف ولا تكاليف عمل ومهام وظيفية.
وركل مع هذا القرار طموحاته في الوظيفة على حد تعبيره فقد الزمته مكانه بين الكادحين بدخل محدود ومحسوب بالهللة مهما بلغ من درجات وارتقت به السلالم الوظيفية من ترقيات ، معتقدا بأنه سيجد ضالته بما يختار من ممارسة نشاطات وهوايات وتقديم خبرات يحتاج إليها آخرون بعد أن سكنه اليقين بأن الوظيفة أجهزت بروتينها على كثير من أحلامه الوردية ، لكننا عندما ألتقيناه بعدة أشهر قليلة وجدناه وقد أصابه الهرم وبدت عليه ملامح شيخوخة مبكرة .
صاحبنا أصبح يسهر حتى الصباح وينام ساعات النهار في حالة من الفراغ والضياع الذي عطل عليه كل حالة من التفكير الإيجابي للحياة فقرر التوجه إلى دور خدمات المتقاعدين التي من المفترض أن توفرها مصلحة المعاشات والتقاعد ، فشمّر عن ساعديه وقرر خوض التجربة ليلتقي بمن هم في مثل حالته ويشابهون ظروف فراغه النفسي والعملي بالذات إن هناك نواة كان يسمع عنها لمشروعات تختص بالمتقاعدين من الموظفين والاندماج في برامجها الرياضية والثقافية والترفيهية .
لم ييأس حينما وجدها لا تزال نواة مشروعات على حالها وسيرتها الأولى فقرر الانطلاق إلى ما يطلق عليه مراكز خدمات الأحياء التي كانت مشروعاً حيوياً نموذجياً ذو طموحات واعدة سيغير لا محالة من حركة وطبيعة ارتباط وعلاقات الناس داخل الحي فلم يترك المشروع كفكر تنظيري شاردة ولا واردة إلا وشملها في قاعدته التنظيمية ابتداءً بالشباب والمراهقين فتنمي ميولهم وتصقل مواهبهم وتشغل فراغهم ومروراً بالمتقاعدين وكبار السن والأرامل والأيتام وذوي الحاجات الخاصة وانتهاءً بأصحاب المواهب والقدرات.
فصاحبنا من أصحاب الخبرات والقدرات الإدارية المشهود ومجيد للغة الإنجليزية بطلاقة ، حاول أن يعرض ما لديه من خبرات وخدمات مجانية لسكان الحي وللحي المجاور والأحياء التي تليها من فرط حماسه وشدة اندفاعه فوجد وضعها الراهن لا يزال نواة لما أعلنت عنه من طموح كحال أندية المتقاعدين لم تجتذب أحداً إلى بابها رغم حاجة مستهدفيها لوجودها في حياتهم.
عاد إلى أدراجه وظل يردد بشحوب الحالة التي يعانيها محذراً ومشدداً بأن يعضّ كل منا على نواجذ وظيفته ويتشبث بخيوطها حتى لا يقع في مهب رياح هذه الحالة بين مد ساعات فراغه الطائل وجزر إسقاطات الملل السلبية والندم ، وقف على حقيقة يرددها لكل من يفتح معه الحوار الساخن عن ظروف وأحوال مشابهيه ومماثليه ممن اتخذوا خطوة التقاعد مبكراً دون علم ودراية بما سيكون عليه الحال وهو حال يشبه كثيرا طموح المرأة التي ترغب الإنجاب بعد بلوغ سن اليأس ..!!